زلزالان في هيتي ونجع حمادي لا تحزن يا فؤادي
ترددت كثيرًا، ومعي أسرة تحرير المجلة، في الكتابة عن هاتين الكارثتين، وخاصةً المذبحة التي زلزلت مدينة نجع حمادي المصرية (تلك المدينة الهادئة الجميلة التي تُطل على ضفاف النيل التي أُحِبها وأقيم فيها). والذي زاد من هول المذبحة وأشعلها هو أنه خُطِط لها في ليلة مُبهجة وسعيدة هي ليلة عيد الميلاد، وضحاياها كلهم من الشباب الصاعد والواعد. إذن فالكارثة بشعة والخسائر فادحة، فماذا نكتب عنها؟ وبماذا نصفها؟ وماذا نقول لأهالي الضحايا؟ وإن قُلنا هل سيسمعنا أحد؟! وإن كتبنا هل سيقرأ لنا أحد؟! ورغم ذلك علينا أن لا نسكت، بل نتكلم، وأيضًا نكتب!
والحقيقة هناك أمران دفعاني للكتابة دفعًا؛ الأول شاهدته بعيني، والثاني سمعته بأذني. فأولاً عندما كنت في مدينة “ديترويت” الأمريكية، كنت أتابع مع نزلاء الفندق الذي أقيم فيه أخبار الزلزال المدمر الذي حل بـ “هايتي”، وهي إحدى جُزر بحر الكاريبي. رأينا وسط هذا الدمار والخراب الذي راح ضحيته ما لا يقل عن 200 ألف قتيل، فتىً يقوم بعمل حفرة كبيرة. سأله مذيع قناة الـCNN الإخبارية: “ماذا تفعل يا بُني؟” فأجابه الفتى قائلاً: “أحفر قبرًا لأدفن أختي العزيزة التي ماتت!”، ثم أضاف وقد عجن تراب الحفرة بدموعه الغزيرة: “فأنا ليس لي في الدنيا قريب أو حبيب سواها، فهي التي ربَّتني بعد موت أبي وأمي، وكانت تعمل لتوفر لي طعامي وشرابي”. وبعد أن أزاح الفتى التراب ودفن شقيقته، قال له المذيع: “أنت الآن على الهواء. ماذا تريد أن تقول للعالم؟” قال الفتي قولاً أذهل العقول، بل وهزَّ القلوب: “الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا”. وهذا هو نفس القول الذي نطق به أيوب البار بعد أن فقد المال والبنين وكل شيء. فصرخ واحد من العاملين بهيئة الصليب الأحمر والذي كان يساعد في عملية الدفن بأعلى صوت: “مجدًا للرب!” نعم، فيا لروعة الإيمان! بل ويا لقمة الحب والتضحية والحنان! فهذا الفتى الصغير هو أيوب القرن الحادي والعشرين.
أما الحدث الثاني فقد سمعتُه عندما عدت إلى مدينتي “نجع حمادي”، وهو إنه عندما كانوا يحملون أجساد الشبان في مشهد كئيب ومهيب، قطعت إحدى الأمهات هذا الصمت الرهيب بأن أطلقت زغرودة مدوية جذبت أنظار الجموع، فألهبت المشاعر، وفجرت الدموع، ثم قالت: “صدقوني أنا فرحانة، لا تظنوا أني مُغيَّبة أو سكرانة، فاليوم أنا أرى ولدي عريسًا، ليس في الأرض بل في السماء!” وهذا إيمان منها بأن ابنها ترك الأرض بأتعابها وأوجاعها، وذهب إلى السماء بأفراحها وأمجادها.
القارئ العزيز والقارئة العزيزة،
ما أجمل رجاءنا في المسيح! كما هو مكتوب: «فَرِحين في الرجاء. صابرين في الضيق. مواظبين على الصلاة» (رومية12:12). وأيضًا: «وليملأكم إله الرجاء كل سرور وسلام في الإيمان لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس» (رومية15:13)، و«لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم...» (1تسالونيكي4:13).
لكن ما هو تعليق الرب يسوع على الحوادث الإرهابية، والكوارث الطبيعة؟
ورد في إنجيل لوقا أصحاح 13 أن قومًا أرادوا معرفة رأي المسيح في الحادثة الإرهابية البشعة التي كان قد ارتكبها بيلاطس، إذ يُقال إنه أراد أن يحفر مجرىً مائيًا بأموال الهيكل، فرفضوا مطلبه، لذلك أراد أن ينتقم منهم بأن أرسل جنوده بملابس مَلَكية وقد خبأوا خناجرهم أسفلها، وكان كلما قدَّم جليلي ذبيحة اقترب منه هؤلاء الجنود ليذبحوه بجوار ذبيحته، وهكذا اختلط دم الذبائح بدم مُقدِّميها. فماذا قال المسيح عن هذه الحادثة الإرهابية؟
«قال لهم: أتظنون أن هؤلاء الجليلين كانوا خطاة أكثر من كل الجليلين لأنهم كابدوا مثل هذا؟ كلا أقول لكم! بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. أو أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم أتظنون أن هؤلاء كانوا مُذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم؟ كلا أقول لكم! بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون» (لوقا 13:2-5). وهنا نتعلم خمسة دروس في غاية الأهمية:
(1) أن لا نركز على الحوادث بذاتها، ولا ندخل في تفصيلاتها، أو نبحث في مُسبِّباتها، فكما علَّمنا سيدنا هنا إن التوبة الحقيقية هي أهم دروسها!
(2) الذين يموتون في الحوادث ليسوا أشر من الذين ينجون منها.
(3) لا فرق بين مكان ومكان؛ ففي أورشليم كارثة طبيعية، وفي الجليل حادثة إرهابية. فالسلام ليس بالمكان بل بالإيمان. لذلك قال الرسول بولس: «فإذ قد تبررننا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رومية5:1).
(4) للظالمين يوم، وللمُفترين يوم. وإن كان القضاء على العمل الرديء لا يُجرَى سريعًا (جامعة8:11)، لكن لنتذكر أن طواحين الله تدور ببطء لكنها تسحق ناعمًا. لذلك علَّمنا الكتاب: «لا تنتقموا لأنفسكم... لي النقمة أنا أُجازي يقول الرب» (رومية12:19).
(5) «إن رأيتَ ظُلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا تَرتَع من الأمر؛ لأن فوق العالي عاليًا يلاحظ، والأعلى فوقهما» (جامعة5:8).
لذلك ليتنا نلجأ إلى الرب يسوع لننعم به، وبسلامه، فهو الذي قال: «سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب» (يوحنا14:27).
قارئي العزيز، «في يوم الخير كُن بخير وفي يوم الشر اعتبر (أي فكِّر وخُذ الِعبرة)» (جامعة7:14).
لذلك، عزيزي المتألم وأختي المتألمة، قُل لقلبك: “لا تحزن، فغدنا أفضل جدًا من يومنا، وإن كان الرب لم يَعِدنا برحلة سهلة، لكنه وعدنا حتمًا بسلامة الوصول!”
قول أعجبني: “الله يهمس في ملذاتنا، ويتكلم في ضمائرنا، لكنه يصرخ في آلامنا؛ فهي مكبر الصوت الذي يوقظ العالم الأصم.”