زكريا الكاهن

من هو؟
 
هو أحد الكهنة الأتقياء الذين عاشوا في زمن ولادة المسيح، ونقرأ عنه في مطلع إنجيل لوقا (لوقا1).  ولنفرق بينه وبين زكريا بن بَرَخِيَّا الذي أشار إليه المسيح أنه قُتل «بين الهيكل والمذبح» (متى23: 35)؛ فالأخير، على أغلب الظن، ابن يهوياداع الكاهن وقد قُتِل نتيجة لشهادته الجريئة للرب قدام الملك يوآش (2أخبار الأيام24: 20-22)، أما الأول فهو أبو يوحنا المعمدان.

يقولون إن عدد الكهنة في أيام المسيح كان حوالى 20000 كاهن.  ونفهم أن داود الملك قسَّمهم إلى 24 فرقة تتناوب الخدمة في الهيكل (1أخبار24)، كل فرقة تمارس خدمتها أسبوعًا كاملاً من صباح السبت إلى صباح السبت التالى على مدار السنة.  وكانت الفرقة توزع نفسها خلال الأسبوع على مختلف أعمال الهيكل وتُلقي القرعة على من يدخل القدس ليُقدِّم البخور هناك، وبالتالى كان الكاهن لا يكاد يدخل القدس سوى مرة واحدة في حياته وأحيانًا لا يدخل ولا مرة.
كان زكريا الكاهن من فرقة أَبِيَّا، وهي الفرقة الثامنة، ووقعت عليه القرعة ليدخل إلى المكان المُقَدَّس ليُبخِّر.  كان الكهنة في الأيام التي سبقت مجيء المسيح في أسوأ حالاتهم الروحية واكتفوا بالممارسات الشكلية دون التقوى الحقيقية، ويكفينا أن نقرأ ملاخي1، 2 لنعرف ما كانوا عليه، واستمروا في الانحدار حتى مجيء المسيح.  إلا إن الله كان قد أبقى له بقية من الأتقياء منهم زكريا وأليصابات اللذين كانا «بارَّيْن أمام الله، سالِكَيْن في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم» (لوقا1: 6).

إذًا أمامنا رجل “بار” أمام الله على حساب الذبيحة التي كان يقدِّمها، فأين توجد وسيلة للتبرير سوى هذه؟!  وكذلك أمام الله من الناحية الأدبية، فقد كان سلوكه خاليًا من الشر أو الخبث أو الحِقد.  لكنه كان أيضًا أمام الناس “بلا لوم”؛ أي ليست عليه شكاية صحيحة من أحد.  قد يختلف الناس معه في هذا أو ذاك، ولكنهم مع ذلك يشهدون له بالحياة المستقيمة الصحيحة غير الملومة.  مثل هذه الحياة هي النتاج الطبيعي للسلوك «في جميع وصايا الرب وأحكامه».

زكريا والرؤيا

يقول البشير لوقا إنه بينما كان زكريا يُبخِّر في هيكل الرب «ظهر له ملاك الرب...  فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا، لأن طلبتك قد سُمِعَت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنًا وتسميه يوحنا» (لوقا1: 8-13).

«لأن طلبتك قد سُمِعَت»: كلمات ينبغي أن نتوقف عندها قليلاً.  إن أعظم الأحداث في العالم جاءت نتيجة الصلاة وليس بسبب ذكاء الإنسان أو جهده أو كفاءته.  قال بيللي صانداي عن الصلاة: “صلى إبراهيم من أجل ابن فأعطاه الله نسلاً مثل الرمل الذي على شاطئ البحر، وصلى لأجل سدوم فسمع الله وأنقذ لوطًا.  وصلى يعقوب لأجل إنقاذه من أخيه عيسو.  وصلى موسى ليغفر الله للشعب.  وصلى يشوع فاكتشف عَخَان.  وصلَّت حنة فوُلِد صموئيل.  وصلى حزقِيَّا فمات 185000 من جنود سنحاريب.  وصلى دانيال فكمم الله أفواه الأسود.  وما كان شيء من هذا ليحدث بغير الصلاة.  صلى لوثر فجاء الإصلاح.  وصلى نوكس فاهتزت اسكتلندا.  وصلى برنارد فخضع الهنود.  وصلى وسلي فاتجهت ملايين نحو الله.  وصلى هوايتفيلد فتجدد الألوف.  وصلى فِني فحدثت النهضة العارمة.  وصلى تايلور فتأسست إرسالية الصين الداخلية.  وصلى موللر فجمع سبعة ملايين دولار لإطعام آلاف الجياع واليتامى.  نعم، إن الناس تصلي، والله يسمع!”

لكن لماذا تأخرت إجابة الرب لزكريا؟  حاشا، هي لم تتأخر لكنها جاءت في الوقت المناسب؛ فقد كان لا بُد من ولادة يوحنا قبل المسيح بأشهر قليلة فقط إذ كان هو السفير المُرسَل قبل المَلِك ليعد الطريق أمامه.  ألا نتعلم حكمة الله في تأنيه في إجابة طلباتنا؟!

هل نعرف أن اسم زكريا اسم عبري معناه “الرب يذكر”، وأليصابات معناه “قَسَم الله”، ويوحنا “نعمة الله ورحمته”، والدرس واضح: فالرب يذكر عهده ووعده وهو في الوقت المُعَيَّن يُظهر نعمته ورحمته.  ألا يشجعنا هذا؟!

لكن كيف كان رد فعل زكريا؟ أولاً اضطرب وخاف لرؤية الملاك، فطمأنه بكلام مشجع، وحدَّثه عن صبي له من السمات ما يجعله متميزًا عن جميع الصبيان؛ فمَنْ مِنْ البشر المولودين بالخطية «من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس»؟ لا شك أننا أمام حالة خاصة تتفق ومأمورية يوحنا الخاصة: أن يعد الطريق أمام المسيح.  كان ينبغي لزكريا أن يقبل هذه الكلمات كما فعلت المطوبة مريم بعده رغم صعوبة الأمر جدًا بالنسبة لها (لوقا1: 38)، لكنه أثار المشكلة التي يثيرها الضعف البشري عندما توزن الأمور بموازين العقل البشري: «كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها».  ولكن متى كانت قدرة الله متوقفة على حدود الذهن الإنساني القاصر؟!  إن كلمة “كيف؟” لا توجد في قاموس الله، وينبغي أن تُرفَع من قاموس الإيمان.  ألم يحدث هذا سابقًا مع إبراهيم وسارة؟  ثم تكرر مع حَنة أم صموئيل؟  وبعدها مع الشونمية؟

عوقب زكريا بالصمت وظلَّ هكذا حتى ولادة يوحنا المعمدان.  ولك أن تتصور معي هذا الكاهن، المعتاد على ترديد التسبيحات وتعليم الشريعة، وهو صامت لمدة تزيد عن تسعة شهور!  أكان هذا سهلاً عليه؟  كلا، بلا شك.  لكن هذا هو تأثير عدم الإيمان: إنه يُغلق الفم ويوقف الشهادة.  ألا يحدث هذا معنا كثيرًا؟!  أما الإيمان فهو يفتح الفم: «آمنتُ لذلك تكلمت» (2كورنثوس4: 13).

لكن من الجانب الآخر كان صمت زكريا لازمًا له، فقد كان عليه، قبل وصول العطية الإلهية، أن يقضي فترة في روح التأمل والشركة مع الله.  كان عليه أن يصمّ أذنه عن البشر والعالم (وقد كان أصمًّا على أغلب الظن) ليتفكر في حكمة الله وقدرته وأمانته ووفائه بعهده.  وما عليك سوى أن تقرأ تسبيحته لتكتشف ما كان يدور في ذهنه في هذه الفترة.

زكريا وتسبحته

وُلِد يوحنا المعمدان، وفي اليوم الثامن، يوم الختان، انفتح فم زكريا بمجرد أن كتب اسم ابنه على اللوح.  وأول ما فعله هو أنه تكلم وبارك الله، ثم امتلأ من الروح القدس، وتنبأ بكلمات جميلة يسميها الشراح “تسبحة البركة”؛ إذ بدأت بالكلمات: «مُبارَك الرب».  هذه التسبحة مع أنها بلغة العهد القديم لكنها تحمل في نسماتها عَبَق العهد الجديد وشذاه.

ترنَّم زكريا عن المسيح الآتي الذي سيخلِّص شعبه من والعبودية ويقيم «قرن خلاص...  كما تكلم بفم أنبيائه القديسين».  ونحن الآن نعرف المسيح في صورة أسمى؛ فهو الفادي لشعبه والمُخَلِّص أولاً من خطاياهم، ثم من مشاكلهم ومتاعبهم، إلى أن يخلِّصهم الخلاص النهائي بأخذهم إلى سماه.

ثم تحدث عن المسيح كالمُشرَق من العلاء الذي «يضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت».  إنه المذكور عنه في نبوة بلعام: «يبرز كوكب من يعقوب» (عدد24: 17)، ثم في نبوة ملاخي: «شمس البر والشفاء في أجنحتها» (ملاخي4: 2).

في مجيئه الأول كان هو «النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان»، وكذلك الذي حمل الرجاء والشفاء للسالكين في الظلام، وفي مجيئه الثاني سيظهر من السماء كشمس البر لأتقيائه المُجتازين في ظلمة الضيقة والآلام، وبين الاثنين تنتظره كنيسته ليأتيها من السماء ككوكب الصبح المنير فتكون في سلام.