الشيطان والإنسان في الجنة
رأينا فيما سبق كيف سقط الشيطان من عليائه عند ما ارتفع قلبه، وكيف أنه بعد سقوطه خرَّب الأرض وجعل العالم كقفرٍ، وعلى وجه الغمر ظلمة، وشوَّه جمال الخليقة التي أبدعها الله لمسرَّته، والتي لروعتها وجمالها ترنَّمت كواكب الصبح معًا وهتف جميع بني الله.
إنه هو العدو الأول لله، والذي يريد أن يُفسِد كل مشروعاته ويُعطِّل كل مقاصده.
لكن الله أعاد ترتيب الكون في ستة أيام. فقال أن يُشرِق نور من ظلمة، وفصل بين النور والظلمة، وبين الأرض والسماء، وبين البحار واليابسة. وقال أن تُنبِت الأرض وتُثمِر. وعمل الشمس والقمر والنجوم وكل ما يدور في الأفلاك. وخلق ذوات الأنفس الحية (أسماك وطيور وحيوانات). وأخيرًا خلق الإنسان على صورته كشبهه، إذ جبله ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فأعطاه الروح العاقلة الناطقة الخالدة التي تُميِّزه عن سائر المخلوقات. هذه الروح تفهم الله وتَحِن إليه لأنه مصدرها، وتتواصل معه وتستريح فيه ولا تستغني عنه.
وقد سلَّطه الله على كل الخليقة، وجعله تاجًا ورأسًا لها. فدعا آدم بأسماء جميع الكائنات الحية، والله صَادَقَ على ذلك. وكانت الخليقة كلها تخضع له، وكان هو صاحب السلطان، ويُمثِّل الله في الخليقة. ورأى الله أن كل ما عمله إذا هو حسنٌ جدًّا.
وعند ما أراد أن يصنع له بيتًا يعيش فيه، غرس جنَّةً في عدن، ووضع فيها كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل. هناك وضع آدم ليسكن هانئًا آمنًا ويعمل في الجنَّة ويحفظها.
وعند ما رآه وحيدًا لا يجد مَنْ يحكي معه ويشاركه أفكاره واهتماماته وأفراحه وعواطفه، قال الرب الإله: «ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له مُعينًا نظيره» (تكوين2: 18). وكما خلق آدم بطريقة مُمَيَّزَة، هكذا خلق المرأة بطريقة مُمَيَّزَة إذ أوقع سُباتًا على آدم فنام وأخذ واحدة من أضلاعه، وبناها امرأة، وأحضرها إلى آدم.
وفي كل هذا برهن الله على حبه للإنسان الذي خلقه، وقصده الصالح من جهته. فقد عمل كل الخير لإسعاده، وكل ما يكفي لإشباع احتياجاته الروحية والنفسية والجسدية. وكان كل ما حوله ينطق بالعناية والرعاية والحب والاهتمام الأبوي من جانب الله نحوه. ولم يكن الله بعيدًا عنه بل كان يأتي لزيارته كل صباح، ويتفقد أحواله، ويُسعِده بالشركة والتواصل والحديث معه، كأب مسرور بابنه.
بقي أن الله، وهو صاحب السلطان الأعلى، باعتباره الخالق لكل المخلوقات بما فيها الإنسان، وصاحب الفضل في كل ما صنع لإسعاد الإنسان، له الحق أن يرى التقدير والاحترام والمهابة والإكرام والطاعة والإذعان من جانب الإنسان لجلاله ومجده وعظمته وسلطانه. وهذا ما تفعله الخليقة وكل الملائكة التي تُسبِّح وتمدح وتُحدِّث بمجد الله وتُخبِر بعظمة قدرته وحكمته. فبالأولى كثيرًا الإنسان الذي أحبه وميَّزه وسلَّطه على كل الخليقة. وما كان يليق به أقل من ذلك!
لهذا أعطاه وصية واحدة قائلاً: «من جميع شجر الجنَّة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشَّر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت» (تكوين2: 16، 17).
لم يعطِه أمرًا بل وصية، فالعلاقة علاقة حُب في المقام الأول، وليست علاقة سيد بعبده. وهذه الوصية لم تكن للحرمان بل للامتحان، فقد كان له مُطلَق الحرية أن يأكل من جميع شجر الجنَّة ويستمتع بكل ما حوله، عدا هذه الشجرة الواحدة. ولم تكن الوصية أن يفعل شيئًا عسيرًا بل أن لا يفعل؛ أي إن الوصية سلبية، وهذا أسهل بكثير.
وقد تقبَّل آدم هذه الوصية بسرور ولم يشعر بأمر شاق. وكان أمرًا طبيعيًّا أن يطيع ويحترم الوصية الإلهية مُعبِّرًا عن تقديره ومحبته لله صاحب الفضل وصاحب السلطان الأعلى. فماذا حدث بعد ذلك؟
لقد عزَّ على الشيطان أن يرى الإنسان سعيدًا مُستريحًا، مُتسلِّطًا على كل الخليقة، وكل الخليقة تخضع له. وعزَّ عليه أن يراه مُستمتعًا بالعلاقة الحميمة مع الله؛ مصدر الحب والخير والصلاح. وعزَّ عليه أن يرى الله مسرورًا بالإنسان، واجدًا لذَّته فيه، في توافق وانسجام معه إذ كان على صورته كشبهه، ولم يكن هناك ما يُعكِّر صفو هذه العلاقة. فماذا فعل؟
لقد أراد أن يُحطِّم مشروع الله ومقاصده من جهة الإنسان، ويُفسد العلاقة الحميمة معه، ويُدمِّر الإنسان ويُفقده السلطان ويقوده إلى العصيان، فيكسر الوصية ويفعل الخطية، والنتيجة أنه يُلحِق الإهانة بالله، ويجلب الموت واللعنة والدمار على نفسه وعلى كل الخليقة وكل الجنس البشري من بعده، فكيف وصل إلى غايته؟
لقد أتى إلى الإنسان في الجنَّة، واستغل أجمل وأذكى الحيوانات التي عملها الرب الإله وهي الحيَّة، ودخل فيها. وكلمة “الحيَّة” تعني “اللامع أو البهي”، وكانت كذلك يوم خُلِقَتْ، ويوم دعاها آدم بهذا الاسم. وهكذا نرى أن الشيطان يتستَّر وراء كل ما هو جميل وجذاب ومُثير، وأحيانًا يُغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور لكي يخدع النفوس ويجعلها تُصغي إلى همساته دون أن تشعر بالانزعاج والقلق. فكيف دار الحوار بينه وبين المرأة في الجنة لأول مرة؟ ومنه نتعلَّم أسلوب الشيطان لكي نتحذَّر ولا نجهل أفكاره.
هذا ما سنراه في المرة القادمة إذا شاء الرب.