عندما خلق الله الإنسان نقرأ القول: «وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تكوين1: 26)، ثم يأتي القول في أمثال8: 31: «لذاتي مع بني آدم». وهكذا يُعلن الله منذ البداية قيمة الإنسان كفرد بالنسبه له. وعلى مر الزمان نرى اهتمام الله الواضح بالإنسان كفرد، وكيف يتعامل مع كل واحد بمفرده بطريقة خاصة متلائمة مع شخصيته وظروفه.
وفي حياة الرب يسوع على الأرض كان يهتم بالنفوس ليس فقط كمجموعات، بل ركَّز كثيرًا على أهمية التعامل الفردي المتميز مع نفوس كثيرة؛ فنجده يسير المسافات الطويلة ليتقابل مع أشخاص منفردين ليعالج وضعهم ويردهم إلى الطريق الصحيح. ودعونا نستعرض مفهوم العمل الفردي وأهميته متعلمين من سيدنا العظيم.
أولاً: أهمية العمل الفردي
1- تقدير الرب للفرد
في مثل الخروف الضال نقرأ: «ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟» (لوقا15). وهذا ما نراه واضحًا في حياة سيدنا عند ما كان هنا على الأرض؛ فمثلاً نراه يترك اليهودية ويمضي إلى الجليل وفي الطريق يجتاز السامرة ويأتي إلى مدينة سوخار ثم يجلس على البئر ليتقابل مع المرأة السامرية ويتكلم معها على انفراد (يوحنا4).
2- اختلاف الشخصيات البشرية
لقد خلق الله الإنسان بطبيعة وشخصية متميزة مختلفة كل واحد عن الآخر، وبحق كتب المرنم قديمًا: «نَسَجْتَني في بطن أمي. أحمدك من أجل أني قد امتزتُ عجبًا» (مزمور139: 13، 14). وهناك أشخاص لا يمكن التواصل معهم بطريقة مؤثرة إلا على المستوى الفردي، وهذا ما نرى السيد العظيم يفعله؛ فنراه مثلاً يتقابل مع المرأة السامرية على انفراد بعد ما مضى تلاميذه إلى المدينة ليبتاعوا طعامًا (يوحنا4: 11). كما نراه يجلس مع نيقوديموس ليلاً منفردين ليقوده إلى طريق الحياة الأبدية (يوحنا3).
3- اختلاف الظروف التى يعيش فيها الشخص
كثير من الناس يعيشون في ظروف شخصية أو اجتماعية خاصة تضع أمامهم عوائق كثيرة لسماع الأخبار السارة في الاجتماعات العامة؛ لذا يتطلب الأمر الوصول إليهم حيث هم وعلى انفراد. وهذا ما نراه في مقابلات السيد العظيم مع نيقوديموس الفريسي، والمرأة السامرية، ومريض بيت حسدا (يوحنا5).
ثانيًا: أهداف العمل الفردي
لكي ينجح العمل الفردي يجب أن يضع الخادم أمامه أهدافًا محدودة واضحة تتناسب مع حالة ووضع كل شخص، وهذا ما نتعلمه من سيدنا الخادم العظيم:
1- تغير الحياة والحصول على الولادة الجديدة
وهذا ما نراه في مقابلة الرب مع نيقوديموس الذي كان تركيز الرب معه في القول: «ينبغي أن تولدوا من فوق» (يوحنا3: 7). ثم المرأة السامرية حيث قال لها: «من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد» (يوحنا4: 14).
2- تصحيح مسار المؤمن
كما حدث مع تلميذي عمواس، فبعد ما اقترب منهما الرب وسار معهما الطريق كله إلى عمواس، صحَّح أفكارهما فرجعا مباشرة إلى أورشليم (لوقا24: 13 35). كما نرى ذلك أيضًا في مقابلة الرب لبطرس عند بحر طبرية وهو يحاول أن يصطاد السمك مرة أخرى «وقال له: اتبعني» (يوحنا21: 1 19).
3- التشجيع وتصحيح الأفكار
وهذا ما نراه بعد تقابل الرب مع مريم المجدلية عند القبر الفارغ بعد قيامته، فتحولت من باكية مضطربة إلى أول مبشرة كارزة بقيامته من الأموات (يوحنا20: 1 18). وأيضًا ما حدث عند ما ظهر الرب للتلاميذ بعد قيامته لكي يتقابل مع توما المتشكك حيث هتف بعدها قائلاً: «ربي وإلهي» (يوحنا20: 24 29).
4- نحو القامة الروحية
وهذا واضح في تعامل الرب مع مريم أخت مرثا، ففي المرة الأولى «جلست مريم عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه» (لوقا10: 39)، وفي المرة الثانية «أخذت مريم مَنًا من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها» (يوحنا12: 3).
5- إعداد المؤمن للخدمة
وهذا واضح مما حدث مع أندراوس، فبعد ما مكث مع الرب على انفراد، مع تلميذ آخر، يومًا كاملاً، رجع إلى بيته وأخبر أخاه سمعان عن المسيح ثم جاء به إليه (يوحنا1: 35 42)، وأيضًا تكرّر هذا مع فيلبس الذي بعد ما تبع يسوع على انفراد ذهب وجاء بنثنائيل إلى يسوع (يوحنا1: 43 47).
ثالثًا: الأسلوب الصحيح للعمل الفردي
كثيرون يفشلون في العمل الفردي وبدلاً من أن يساعدوا الآخرين يكونون سببًا في تفشيلهم، لكن دعونا نتعلم من السيد الأساليب الصحيحة التي اتَّبعها في تعامله مع النفوس فاستطاع أن يربحها ويغير حياتها:
1- معرفة المدخل الصحيح للتواصل
لكي ننجح في العمل الفردي علينا أن نفتش على المدخل الصحيح للتعامل مع الأشخاص ونتعلم من سيدنا الذي بدأ الحديث مع نثنائيل بالقول: «هوذا إسرائيلي حقًّا لا غش فيه» (يوحنا1: 47)، أما مع نيقوديموس بالقول: «إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (يوحنا3: 3)، وأما المرأة السامرية فقال لها: «أعطيني لأشرب» (يوحنا4: 7).
2- معرفة حالة الشخص واحتياجه الرئيسي
لكل شخص احتياج أساسي يشغله وعدم تسديده بالطريقة الصحيحة يتسبب في تعطيل مسيرة حياته وقد يُسقِطه في أخطاء كثيرة. لذلك علينا التركيز في معرفة حالة الشخص وما يشغله. فنيقوديموس كان فريسيًّا ملتزمًا بالشريعة اليهودية لكنه كان يفتقد التمتع بالعلاقة الصحيحة مع الله لذلك ركز الرب معه على ضرورة الولادة من فوق. أما السامرية فكانت تفتقد للشبع العاطفي في حياتها والتي حاولت أن تقتله بطرقها الخاطئة ولم تقدر، فكلمها السيد عن الماء الحي الذي مَن يشرب منه لن يعطش إلى الأبد بل يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.
3- استخدام الأسلوب الصحيح الذي يتناسب مع الشخص
هذا نجده واضحًا من أسلوب حديث الرب مع نيقوديموس الفريسي الذي يعرف كلمة الله في العهد القديم، فكلمه عن مفهوم الولادة من فوق، والحيَّة النحاسية. أما المرأة السامرية التي تبحث عن الشبع في مياه العالم التي لا يمكن أن تُشبِع فتكلم معها عن الماء الحي الذى يُعطي الارتواء الحقيقي.
4- التركيز على الاحتياج الرئيسي وليس الأمور الفرعية
كثيرًا ما يفشل العمل الفردي لأننا ننسى الهدف الرئيسي ونؤخَذ بعيدًا بأسئلة أو نقاشات قد تكون هامة لكنها قد تُبعدنا عن الخط الرئيسي في الحديث. ليتنا نتعلم من سيدنا الذي عندما تكلم مع المرأة السامرية ركَّز على احتياجها الرئيسي ولم يقف عند تعليقاتها الفرعية البعيدة عن الجوهر الرئيسي لاحتياجها، وحتى عندما سألته عن السجود كان رده: «صدقينى أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب».
5– احترام أحاسيس الشخص ومشاعره
عندما أتى الكتبة والفريسيون بالمرأة التى أُمسكت فى زنا ليرجموها، انحنى يسوع إلى الأرض وبعد ما خرجوا واحدًا فواحدًا انتصب يسوع وقال لها: «أين هم أولئك المشتكون عليكِ؟ أما دانك أحد؟... ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا». فلم يجرح مشاعرها أو يذكِّرها بماضيها الشرير بل أطلقها بسلام (يوحنا8: 1 11). وأيضًا عندما ظهر عند بحر طبرية بعد قيامته من الأموات أخذ بطرس جانبًا وتكلم معه لا عن الخطإ الذى ارتكبه في رجوعه لصيد السمك وجذب التلاميذ الآخرين معه بل تكلم معه عن محبته له ثم رعاية غنمه وخرافه (يوحنا21: 1 17).
ليتنا نتعلم هذه الدروس العظيمة في العمل الفردي ولا يأخذنا العمل الجماعي عن تقديرنا لأهمية النفوس كأشخاص متميزين لهم تقديرهم وأهميتهم عند الله، فنتعامل معهم بالطريقة الصحيحة متذكرين القول: «قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يُطفئ حتى يُخرِج الحق إلى النصرة» (متى12: 20)!