تأثرًا بدموع أحد خدام الرب الأفاضل وهو يتحدث عن احتياجنا الشديد للعودة للبساطة والشعور بالمسكنة لنحيا حياة التقوى كما كان أسلافنا قديمًا؛ جاءتني فكرة هذه المقالة.
قال أحدهم إن الكتاب المقدس مثل الطبيب الماهر الذي قد يصدمك في البداية؛ لكنه يعالجك ويريحك في نهاية الأمر. وحقًّا كتابنا المقدس كذلك، فقد يصدمنا ببعض الحقائق والمفاهيم التي لم نعتَد عليها، بل قد تكون أحيانًا بعكس ما اعتدنا عليه تمامًا؛ لكننا نكتشف بعد ذلك أنه يعالجنا ويريحنا من كل ما يتعبنا. وحديثي معك بخصوص المقولة الشهيرة التي نسمعها كثيرًا والتي تقول: “البقاء للأقوى”. إننا نجدها تتكرر على أسماعنا كثيرًا، سواء فيما يخصّ الحديث عن الماضي والتاريخ السابق لنا والمليء بالحروب والمعارك الطاحنة. أو في الحاضر حيث الصراعات المشتعلة في كل مكان في العالم، بدءًا من الصراعات في العمل وحتى الصراعات بين الدول وبعضها. أو عن المستقبل؛ فالعالم من حولنا ينادي بأن البقاء للأقوى دائمًا، وأن الضعيف ليس له مكان على هذه الأرض.
وأنت، عزيزي الشاب، في أيامنا هذه مُحاط من كل ناحية بما يُقنعك بهذا الفكر. فأنت اليوم تتعامل مع أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الإلِكترونية الحديثة بكل يُسر وسهولة، بينما تجد الأكبر منك سنًّا قد لا يفقه فيها شيئًا، ومن ثم يملؤك هذا بشعور قوي جدًّا يتملكك بأنك الأقوى والأقدر. فحينما تجد الأكبر منك سنًّا يلجأ لك لحل مشكلة في الكمبيوتر أو للدخول على موقع في الإنترنت أو للتعامل مع جهازه المحمول بالتأكيد تشعر بأن فيك ما يميزك عنه. وحينما تحتفظ على الكمبيوتر الخاص بك بكل ما تريده من أمور قد لا يرضى عنها الوالدين أو المجتمع من حولك، لكنك ترى أنهم لن يستطيعوا الوصول إليها؛ كل هذا يزيد بداخلك الشعور بالقوة. وحينما تتحدث مع أناس من أي دولة في العالم من خلال شبكة الإنترنت بينما الأكبر منك سنًّا ما زالوا يتحدثون عن “أيام زمان” وكيف كانوا ينظرون للراديو على أنه معجزة علمية، تجد نفسك تبتسم ابتسامة سخرية مما يُقال، وتتعامل معهم، على أنهم أدنى منك في مستوى التفكير والعلم!
لكنني أعود مرة أخرى لبداية حديثي معك وأقول لك إن الرب يسوع المسيح - له المجد - أتى بما هو مخالف لتعاليم البشر الزائلة ليؤكد لنا أن “البقاء للأضعف”، بل ليعلِّمنا أن الضعف قوة، حينما يكون بالاتكال عليه والاحتماء به.
هل تعلم لماذا ينادي العالم بأن البقاء للأقوى؟ لأنه قد وُضع في الشرير (1يوحنا5: 19)، وهدف أهداف الشيطان هو أن يُبعدك تمامًا عن الله. لذا فهو يريدك أن تشعر بالقوة حتى تستقل عن الله، وحتى لا تشعر يومًا بأنك في احتياج لمن هو أقوى منك لتحتمي به، فتكون مكتفيًا بنفسك غير محتاجًا لإلهك القدير. وهذا ما فعله منذ بداية الخليقة حينما أغرى حواء: «...تكونان كالله عارفين الخير والشر» (تكوين3: 4)؛ فغرس في ذهنها فكرة القوة والمعرفة الأكثر، فشعرت أنها ستكون أقوى حينما تأكل من ثمر الشجرة التي أمرهما الله بأن لا يأكلا منها. فكان السقوط والطرد من الجنة لكي يدرك آدم وحواء من البداية أن البقاء ليس للأقوى.
انظر ما قاله الرب للتلاميذ: «إذا أراد أحد أن يكون أولاً فيكون آخر الكل وخادمًا للكل» (مرقس9: 35؛ 10: 43، 44). فهو يؤكد أن الأول ليس هو المتقدم والأقوى بل هو الأخير، وأن الأعظم ليس هو الأشهر والأقدر بل هو العبد البسيط المتضع الذي يعرف جيدًا أنه ضعيف جدًّا في ذاته وإنما يستند على الأقوى من الكل وسيد الأرض كلها؛ الله نفسه! وهل هناك قوة أكثر من هذه أن تكون في حِمَى رب السماوات والأرض؟!
ودعني أناقشك في بعض الأمثلة التي أوردها الروح القدس في الكتاب المقدس بهدف تعليمنا مبادئ الله. واسمح لي أن أسألك: تُرى من كان الأقوى في وجهة نظرك إبراهيم أم لوط؟ بنظرة أهل العالم آنذاك ستكون الإجابة بلا تردد: لوط طبعًا؛ فهو ساكن في مدينة، بينما إبراهيم في خيمة في قلب العراء. لوط له علاقات بشيوخ وكبار سدوم، بينما إبراهيم منعزل وحيد لا يعرف شيئًا عمن يسكن في وسطهم. لكن الله له رأي مختلف، فقد كان البقاء في الحالة الروحية الصحيحة من نصيب إبراهيم، بل إنه يومًا كان هو المنقذ للوط حينما سُبي ومن حريق سدوم (تكوين14؛ 19: 29).
دعني أذكر لك مثالاً آخر وأسألك أيضًا: تُرى من كان الأقوى من وجهة نظرك يوسف أم زوجة فوطيفار؟ بالنظرة الإنسانية قد تكون زوجة فوطيفار ذات السلطة والشهرة والنفوذ والمكانة الرفيعة هي الأقوى، لكن الواقع لم يكن هكذا، إذ يقول الكتاب أن امرأة فوطيفار: «رفعت عينيها إلى يوسف» (تكوين39: 7). لقد كانت ترى يوسف أعلى منها وأقوى منها.
وأسوق إليك بعض الأمثلة التي تملأ صفحات الكتاب المقدس كي ما تتأمل فيها لتجد الحقيقة المؤكدة أنه في حسابات الله دائمًا البقاء لمن يشعر بضعفه ومسكنته فيلجأ له، وأتركك تتأمل في كلٍ منها. ومن هذه الأمثلة: داود وجليات، موسى وفرعون، مردخاي وهامان، الغني ولعازر.
بالطبع كلمة الله ليست ضد التقدم والتكنولوچيا، ولولا هذا التقدم لما استطاع إخوتنا الأفاضل أن يُخرجوا لنا مثل هذه المجلة بهذه الصورة الرائعة، لكن الله يقاوم الشعور بالقوة والكبرياء الذي يتملكنا نتيجة استخدامنا لهذه الأمور. لكنه في المقابل لا يحتقر ولا يرذل مسكنة المسكين (مزمور22: 24)، بل يكون هو ملجأه وحصنه المنيع.
فيا له من مشهد مؤثر ومحبَّب جدًّا على قلب الله حينما يرى شابًّا مثلك في ريعان شبابه لديه الكثير من الفهم والفطنة ومُتَّقد الذكاء، لكنه ينحِّي كل هذا جانبًا ويجثو ضعيفًا خاشعًا أمامه في وقار وتقدير لعظمة شخصه وقدرته الفائقة، ويطلب يومًا فيومًا حكمة من الله وفهمًا لمشيئته وإكرامًا لشخصه، ويستغل كل ما أنعم الله عليه به من تعليم وفهم كي ما يستخدمه لمجده وخدمته! نعم، أخي الحبيب، هذه هي القوة ومصير هذا الشاب هو البقاء. بالطبع ليس البقاء على قيد الحياة، فلا أحد يعلم متى تنتهي حياته، وإنما أقصد البقاء في قوة روحية، وفي جو نقي منعش تعطِّره رائحة المسيح الزكية. سيظل تأثيره باقيًا، وخدمته باقية، وكلماته لها تأثير خاص ودائم لأنها نابعة من قلب يشعر بمدى ضعفه لكنه يؤمن أيضًا بقوة وقدرة إلهه كلي القدرة! ألا توافقني أخي الحبيب أن “البقاء للأضعف”؟