لم يكن يومًا عاديًّا في مدينة زيورخ بسويسرا، ليس لأن الشمس كانت دافئة على غير المعتاد، ولا لأن الجميع من حوله كانوا مبتهجين بهذه المناسبة. كلا، لقد كان يومًا غير معتادٍ لأن شيئًا هامًّا بالنسبة له شخصيًّا كان على وشك الحدوث. كانت العائلة كلها مشتركة في الاحتفال. والداه والأخ الأكبر لم يبتهجوا فقط، ولكنهم شجعوه وأيَّدوه فيما تشجَّع أن يفعله. منذ عدة شهور، بل طيلة العامين الأخيرين، حثَّه والداه على أن يتجاسر ويتخذ قراره إذ ناشداه قائلين: حان الوقت لاتخاذ القرار. هما لم يجبراه عليه، فلقد أراداه أن يختار ويتعايش مع النتائج.
تركت العائلة المنزل، وذهبوا جميعًا إلى الحديقة، حمل الوالد سلة مهملات كبيرة ولم ينسَ أعواد الكبريت، وبعد ترتيب كومة الورق قام بإشعالها، وألقى صاحبنا بهذا الشيء الذي كان يحبه كثيرًا في اللهيب.
ما هو هذا الشيء؟ كم كان عمره وقتها؟ كان عمره خمس سنوات، وما أحرقه كان هو “السكَّاتة”، هذا الشيء المطاطي الناعم، وكان حتى هذا الوقت يشكل عالَم الإدمان والأمان بالنسبة له، لم يكن يستطيع أن ينام بدون “السكَّاتة” وهي في فمه، والآن ذهب هذا الأمان وهذا الإدمان، وكان عليه أن يتعلم أن يعيش بدونه بعد أن تجاسر وأحرقه من صميم إراداته الحرة.
كان هذا اليوم فاتحة لأيام عديدة مشابهة، فقد اضطر مرارًا وتكرارًا أن يتخلى عن العديد من الأشياء الأخرى التي تشعره بالأمان، وتعلم أن يضع ثقته في الله في المواقف الجديدة.
فعلى سبيل المثال، كان عليه أن يدير ظهره للعمل كباحث كيمائي حتى يتفرغ لخدمة الرب الذي أقنعه بذلك.
وكان عليه أن يبيع سيارته الحمراء السريعة الجميلة ليستغل ثمنها في خدمة الرب.
وكان عليه أن يترك وطنه سويسرا ويذهب إلى أفريقيا من أجل ربح النفوس.
وكان عليه أن يتخلى عن كل رصيده في البنك ويُسلِّم آخر سِنت من أجل العمل الذي نوى أن يعمله في أفريقيا.
إنه “رودي لاك” الذي سافر إلى أكثر من 100 دولة في العالم من أجل ربح النفوس وافتقاد المؤمنين.
وأنت وأنا، ماذا تركنا من أجل الرب؟!
خسر كثيرًا... لكنه ربح أكثر!
عندما تقابل شاول الطرسوسي مع الرب يسوع وهو في الطريق من أورشليم إلى دمشق (أعمال الرسل9)، وضع ثقته فيه وصار من أولاد الله. بعدها تحقَّق من أن ما كان يتمتع به من امتيازات عظيمة في ذلك الوقت لم تكن إلا نفاية.
كدارس تربَّى عند قدمي غمالائيل؛ المعلم الكبير (أعمال22: 3). سيرته في الديانة اليهودية إنه كان متفوقًا على كثيرين من أبناء جيله في أُمَّته (غلاطية1: 13، 14). مولود في عائلة عبرانية خالصة؛ أي لم يكن يهوديًّا دخيلاً، مختون في اليوم الثامن طبقًا للشريعة (فيلبي3: 5). من سبط بنيامين (فيلبي3: 5)، وكان المعلمون اليهود يفهمون مغزى الإشارة إلى هذا السبط؛ فيوسف وبنيامين كانا الابنين المحبوبين من يعقوب وأول ملك لإسرائيل كان من هذا السبط. يتكلم اللغة العبرانية بطلاقة (أعمال21: 40؛ 22: 2). كان فريسيًّا (فيلبي3: 5)، وكانت أقصى أمنية لكل يهودي في ذلك الوقت أن يكون فريسيًّا؛ أي متمسكًا بالتعليم والعقيدة. نعم، إن كلمة “فريسي” اليوم تذكرنا بالرياء، ولكن في ذلك الوقت كانت كلمة لها احترامها حتى إنهم قالوا: “إن من يذهب إلى السماء لا بد أن يكون فريسيًّا”. كان من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم (فيلبي3: 6)، لأنه حفظ الناموس والتقاليد كاملة. نعم، كان ينظر إلى الخارج وليس إلى الداخل، وكان يقارن نفسه بمقاييس الناس وليس بمقياس الله وإذ ذاك نجح بدرجة امتياز. كان غيورًا جدًّا لدرجة أنه اضطهد كثيرًا كنيسة الله، وصنع أمورًا كثيرة مضادة لاسم يسوع الناصري (أعمال22: 1-5؛ 1تيموثاوس1: 12-16).
حقًّا إن كل يهودي كان يفتخر بسلسلة نسبه وإن كان ليس له فضل في ذلك، والبعض كانوا يفتخرون بأمانتهم للديانة اليهودية، أما شاول، الذي هو بولس، فإنه كان يستطيع أن يفتخر بكل هذه الأشياء.
أحبائي، لقد خسر بولس كل ما كان ربحًا شخصيًّا له وهو بعيد عن الله. كان له سُمعة عظيمة كعَالِم وكقائد ديني. كان فخورًا بميراثه اليهودي وإنجازاته. بالتأكيد كان له أصدقاء مُعجَبون بغيرته. لكنه عمل حسنًا إذ قاس هذه الكنوز بالمقارنة بما قدَّمه له الرب يسوع؛ فأدرك أن كل ما كان غاليًا عليه وعزيزًا عنده كان لا شيء.
ماذا ربح بولس؟
حقًّا قال جيم إليوت: “ليس غبيًّا من يضحي بما لا يستطيع أن يحتفظ به، في سبيل أن يربح ما لا يستطيع أن يفقده”! ولقد ربح بولس أكثر جدًا مما خسر (فيلبي3: 8-10):
- معرفة المسيح: بالتأكيد كان بولس يعرف عن المسيح، لكن منذ أن تقابل معه أصبح يعرفه شخصيًّا، بمعنى التمتع بعلاقة شخصية «أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح».
- الوجود في المسيح: كان البر الذاتي؛ بر الأعمال، هو هدفه عندما كان فريسيًّا، ولكن الآن اسمعه يهتف ويقول: «وأوُجد فيه، وليس لي بري الـذي من الناموس، بل الـذي بإيمان المسيح، البر الـذي من الله بالإيمان».
- الشركة مع المسيح: عندما كان بولس يعيش تحت الناموس كان لديه مجموعة من القوانين والأحكام والقواعد عليه أن يعيش بموجبها، أما الآن فقد صار له صديق رائع ورفيق دائم، وكان عليه أن يعرفه أكثر، لذا نجد شعاره هو: «لأعرفه».
حريق النار
في سفر العدد ص19 نرى منظرًا جميلاً ورائعًا إذ عندما تُحرَق الذبيحة هناك كان على الكاهن أن يطرح في النار خشب الأرز؛ هذا الشجر العالي والغالي، وهو يرينا الأمور الغالية علينا والتي يمكن أن تعطلنا عن التكريس الحقيقي له. وأيضا يلقي الزوفا؛ وهو نبات صغير جدًّا، وهو يرينا الأمور التي يعتبرها البعض تافهة لكنها تعطل شركتي مع الرب. وأيضًا كان عليه أن يلقي القرمز؛ وهو لباس الملوك، الذى يذكرنا بجاذبيات العالم.
أحبائي، ليتنا نحب الرب ونضحي بكل شيء من أجله!