لم أمسك دمعات انهمرت وأنا أشاهد مقطع فيديو أرسله لي صديق. لم أستطِع أن أمسكها، والحقيقة أيضًا أنني لم أُرِد أن أمسكها. فالموقف يستحق البكاء، الذي نحتاج أن نعود فنتعلمه. ليس البكاء على تفاهات الحياة الزائلة، بل كما قال النبي الباكي: «يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ، وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي» (إرميا9: 1).
ودعنى أحكي لك القصة كما ارتسمت لي من خلال البحث في الإنترنت ومتابعة الأخبار:
وُلد لأسرة بسيطة في بلدة السهيلة بمنطقة كسروان شمال لبنان عام 1988. وهو لم يبلغ الرابعة عشر من عمره، تُوفي أبوه تاركًا إياه مع أخوين يصغرانه وأمه الأرملة. أثَّر هذا الحادث كثيرًا في حياته؛ إذ صارت المسؤولية كبيرة عليه أثقل مما يحتمل كاهله، وكان كل مبتغاه ألا يعيش في الفقر هو وأسرته. منذ طفولته كان حلمه (كما حكى بنفسه في مقابلة معه) هو: “خوض عالم الفن والشهرة، والشعور بأنه شخص مُهم ومعروف جدًّا في المجتمع”. واصل تعليمه، فحصل على شهادة جامعية في العلوم الزراعية الغذائية. اهتم كثيرًا بالرياضة وتميَّز بجسم رياضي يُحسَد عليه، وبالإضافة لجمال الطلعة وصوته الجبلي القوي تميز بصفات إنسانية طيبة جعلته محل محبة كثيرين. قال أيضًا، في المقابلة سابقة الذكر، إنه من هواة السهر والسفر والتسلية والمرح وبذر المال (الصرف ببذخ).
استمر حلمه الأكبر يراوده، إلى أن أُتيحت له الفرصة بأن يلتحق ببرنامج فني شهير، يؤهِّله للنجومية المُرتَقَبَة، ولتحقيق طموحاته في الحياة التي هي، على حد تعبيره: “الغناء، ثم الغناء، ثم الغناء... وراحة البال والصحة، وبناء مستقبلي، حياتي... وشراء سيارة وبيت، والاستقرار”. وبنسبة كبيرة سار حلمه في طريق التحقيق، إذ حاز على لقب “نجم ستار أكاديمي” هذه السنة، وتوقَّع له الكثيرون نجاحات كثيرة.
في غمرة أفراحه، قرَّر أن يسافر خارج لبنان للمرة الأولى، في ضيافة زميل له في الأكاديمية. قبل مغادرته إلى السفر ودَّعته أمه، وهي أغلى شخص في حياته، واحتضنته وقبَّلته، ثم عاودت نداءه مجدَّدًا واحتضنته ثانية ثم قبَّلته، فقال لها مازحًا: “لماذا تودعينني على هذا النحو، كأنني مسافر إلى غير رجعة؟”. وطار إلى مقصده هناك وأفراحه وأحلامه تسبقه.
في 8 يوليو 2010، حدث ما لم يتوقعه أحد وتناقلته الأخبار سريعًا: خبر وفاة “رامي كميل الشمالي”، إثر تعرضه لحادث سيارة على كوبري 6 أكتوبر بالقاهرة؛ إذ انحرفت عجلة القيادة بسبب السرعة الجنونية، مما أدَّى إلى تخطِّي السيارة الطريق إلى الاتجاه المعاكس، واصطدامها بسيارة ثانية بالمواجهة. وتضاربت الآراء عن مَنْ هو السائق وقتها، هل هو رامي (كما أعلنت الأنباء) أو غيره (كما يقول المُقَرَّبون منه). وبغضِّ النظر فالنتيجة واحدة:
عاد رامي، في سفرته الأخيرة، جثمانًا، شُيِّع من الكنيسة التي اعتاد أن يصلِّى فيها ويرنم في جوقة ترنيمها. تاركًا أمًّا مكلومة وأخوين مذهولين في منزل هادئ ومتواضع أصبح به غرفة مقفلة حزنت جدرانها على فقدان ساكنها! وبعد أن حُمِل على الأعناق احتفالاً، حُمِل مرة أخرى رثاءً، ليوارى الثرى في مثواه الأخير.
إلى هنا والقصة مأساوية، بمصرع شاب لم يكمل عامه الثالث والعشرين، كانوا يتوقعون له مستقبلاً باهرًا. لكن ما أضاف لدمعاتي مرارة أمران:
الأول هو ما بثَّته محطة فضائية اليوم التالي لمصرعه، أن رامي كان يراوده مِرارًا كابوس قَصَّه على مُعلمه وزملائه في الأكاديمية، فيه كان يرى نفسه في سيارة مع زملائه في منطقة مظلمة، ثم يفاجأ بسيارات تأتي من الاتجاه المعاكس بأنوار مُبهرة، وإذ به يهوي، ويهوي، وهو “لا يعلم إلى أين”، حتى يرتطم بالأرض. بكى رامي متأثرًا وهو يحكي الحُلم. سأله معلمه إن كان خائفًا، فردَّ: “أكيد”. فعاوده السؤال: “لماذا؟”. فكانت إجابة رامي: “لأني لا أعرف إلى أين أنا ذاهب!” سأل المعلم: “هل الشعور بأنك لا تعلم إلى أين تذهب يخيفك كثيرًا ويلازمك كل حياتك؟”. فكانت الإجابة: “نعم”. “لماذا؟”. “لأني دائمًا عندي خوف من المستقبل ومن كل شيء بالحياة... أحاول دائمًا أن أتحمل المسؤولية، لكني أخاف ألا أجد معي شيئًا. أخاف أن أطمح لشيء فيحدث العكس”.
وتحول الكابوس إلى حقيقة!! وكان رامي يردِّد كثيرًا أنه سيموت صغيرًا مثل أبيه، وقبيل الحادث بأيام أوصى إحدى قريباته بأمه بعد رحيله!
والأمر الآخر هو تصريح له بعنوان أكثر أغنية أثَّرت فيه وكان: “خلص الوقت”!! وقد انتهى بالفعل، ليس الوقت فقط، بل العمر!!
صديقي.. هل بكيتَ معي؟ صديقتي.. هل بكيتِ معي؟
أعتذر، فلم يكن ذلك قصدي مطلقًا. بل قصدي، رغم أن القصة لا تحتاج لتعليق، أن أدعوك معي للتفكير في بضعة أسئلة، أتركها معك، راجيًا أن تقرأ الشواهد المقابلة لكل سؤال وتقضي وقتًا مفكِّرًا طالبًا من الله أن يحكِّمك للصواب:
هل ما زلنا نغفل أن الحياة أقصر مما نتخيل (مزمور39: 4‑6)؟
إلى أين تقودنا أحلامنا؟ وما قيمتها بالمقابلة مع الأبدية (متى16: 26)؟
هل حضورك الكنيسة والاجتماعات يعطيك يقينًا حقيقيًّا بمستقبلك الأبدي (متى25: 1‑12)؟
إلى متى نبقى ونحن لا نعلم “إلى أين” نذهب (جامعة12: 5)؟
مهما ابتسمت لنا الدنيا على استحياء، هل ندرك كم هي غادرة (أمثال23: 31)؟
الله يتكلم كثيرًا إلينا بطرق مختلفة، فهل تعلَّمنا أن نسمع (أيوب33: 14‑18)؟
عندما يحذِّرنا الله من شيء، هل سنتجاوب مع صوت الله الحاني فنستعد (عبرانيين4: 7)؟
هل تعلم أن لكل مخاوفك نهاية عند الرب يسوع (عبرانيين2: 15)؟
هل أنت مستعد للقاء إلهك (عاموس4: 12)؟
هل لنا أصدقاء وأقرباء لم يتيقنوا مصيرهم الأبدي بعد؟ فماذا نحن فاعلون إزاءهم (أمثال24: 11، 12)؟
في النهاية، ربما يكون من المفيد أن أذكر ما قاله خال الفقيد لإحدى المجلات، وهو ما شاركه الكثيرون من المحيطين بالحادث فيه: “أريد نقل رسالة، قد يكون رامي يريد إرسالها: على أي شاب يريد ركوب سيارة أن يرى في زجاج السيارة صورة والدته”. فكُن حكيمًا وأنت في الطريق، وعُد سالمًا!