حدثت هذه الواقعة يوم الأحد الموافق 30 مايو 2010، عندما ركبتُ القطار المتجه إلى القاهرة - كعادة كل أسبوع - لحضور بعض المحاضرات. وصل القطار في ذلك اليوم إلى رصيف محطة أسيوط في تمام الساعة الخامسة والثلث فجرًا، وظل ساكنًا على الرصيف ينتظر وصول كل المسافرين حتى يحين موعد مغادرته في تمام الساعة السادسة إلا ربع صباحًا.
شققتُ طريقي في العربة الثانية، حتى وصلتُ إلى مقعدي، وأخرجت بعض الأوراق لأقرأها. لم يحدث أي شيء لافت للنظر إلا عندما أتى إليَّ “الكُمسَري” ليرى تذكرتي، واستدار بعدها ليرى تذاكر باقي المسافرين. كانت تجلس أمام ناظريَ فتاة على كرسي مفرد في الصف الموازي لصفي. كانت نائمة، ولسوء حظها فإن اللحظة التي أيقظها فيها “الكُمسَري” ليطلب منها تذكرتها، تحرك القطار وبدأ في الانطلاق.
استفاقت الفتاة سريعًا وسألت: “أين أنا؟ أهذه محطة أسيوط؟” وحالما أدركت أنها بالفعل المحطة المنشودة، أصابها الهلع ونهضت مسرعة لتأخذ حقائبها وتهرول جريًا للنزول من القطار. فهي طالبة بكلية الطب (السنة الأولى) أتت من أسوان، واليوم هو أول امتحان لها وموعده في التاسعة صباحًا. ومما يزيد الأمر سوءًا أن هذا القطار يقف فقط في المحافظات، مما يعنى أن أول محطة سيقف فيها القطار هى محطة المنيا حوالي الساعة الثامنة صباحًا. كان الموقف متأزِّمًا.
جرت الفتاة الأسوانية سريعًا وهي تصرخ وتنتحب وتتوسل إلى الآخرين: “دعوني أنزل! دعوني أنزل!”، فقد ألجموها ومنعوها بالقوة من القفز من القطار الذي مضى سريعًا في طريقه ليغادر رصيف محطة أسيوط. ونظرًا لبُعد مقعدي عن باب القطار، فلم أستطع أن أتابع الأحداث كاملة، ولكني علمت أنها، في توترها، قد ألقت بإحدى حقائبها على رصيف المحطة تمهيدًا لنزولها من القطار. ولبؤسها، كان هاتفها المحمول في هذه الحقيبة التي ألقتها. حاول البعض تهدئتها بينما لامها البعض الآخر.
ظلَّ الموقف متوترًا والقطار يمضي في طريقه غير آبهٍ بمعاناة فتاة مغتربة قلقة، لا تدري ماذا تفعل حيال هذا الموقف العصيب.
ولتلخيص الموقف: ذهب “الكُمسَري” إلى سائق القطار وطلب منه أن يقف لبضع دقائق حتى تنزل الفتاة. كان القطار وقتها قد وصل إلى مدينة منفلوط بل وتخطَّى رصيف محطتها. وأخيرًا رضخ سائق القطار لطلب “الكُمسَري”، ووقف لدقائق معدودة لتنزل الفتاة منه وتستقل أحد “الميكروباصات” القريبة من المحطة لتعود بها إلى أسيوط كي ما تلحق بامتحانها... وأخيرًا مَرَّ الموقف بسلام.
لم أَدَع هذا الموقف يمر عليَّ مرور الكرام، بل جلستُ أراقب وأحلل وأستنتج. وفي الحقيقة لقد شعرتُ بغيظ واستفزاز رهيبين من المسافرين حولي إذ كان الجميع يُدلون بدلوهم؛ فالكل يجلس مرتاح البال في كرسيه المريح، وشخصان فقط هما من اهتما حقًّا بأمر تلك الفتاة المسكينة، بل وتطوعا أن يعطياها مالاً وهاتفًا لتتصل بأهلها. إلا إن باقي الركاب جلسوا يناقشون خطأ من هذا: هل الخطأ من أهلها الذين سمحوا لها بالسفر ليلة الامتحان؟ هل الخطأ من “السفري” الذي لم ينادِ بصوت عالٍ أن القطار وصل إلى محطة أسيوط، لكي يستيقظ من يغط في نومه العميق؟
وجدتُ لدهشتي أن لسان حال الجميع: “نفسي وبعدها الطوفان”. فالكل يشعر بالدفء والأمان، إذ إنهم بالفعل داخل القطار متجهين إلى مقصدهم الصحيح وليس هناك من خطر يتهددهم. ولذلك تفرغوا لمناقشة قضية الفتاة المسكينة. بل إن أحدهم جلس في مقعدها الخاوي غير عابئ بصراخها الذي سمعناه طوال نصف ساعة.
أمر آخر استوقفني: صحيح أني أشفق على الفتاة وأدري جيدًا شعورها ولكني تساءلت: لماذا تخاطر بحياتها في سبيل امتحان؟ ماذا لو قفزت من القطار وفقدت أحد ذراعيها أو ساقيها وعاشت بعاهة مستديمة؟ ماذا لو خسرت حياتها الثمينة التي لن تُعَوَّض؟ لماذا تضحي بالغالي في سبيل الرخيص؟ من الممكن جدًّا تعويض خسارة الامتحان ولكن من المستحيل أن يعيد لها أحدٌ أحدَ أطرافها التي فقدتها، ناهيك عن حياتها!
لماذا موازين الأمور مقلوبة عند الناس؟ لماذا نهتم كثيرًا بما هو وقتي ونهمل ما هو أبدي؟ لماذا نسأل مرارًا وتكرارًا قبل صعودنا القطار عن رقمه ووجهة مقصده ولا نسأل عن قطار حياتنا الأبدية وإلى أين يسير؟
لماذا نهتم كثيرًا بأن نحجز تذاكرنا قبل السفر بموعد كافٍ حتى نتيقن بأن لنا كرسيًّا مريحًا ينتظرنا في القطار، في حين أن كل المسافة قد لا تتعدى خمس أو ست ساعات، بينما لا نهتم بأن نحجز لنا مكانًا في الأبدية السعيدة التي ستدوم أبد الدهر؟! لماذا نغضب كثيرًا إن كان مُكَيِّف الهواء لا يعمل في القطار ولا نطيق الحر ولو لبضع ساعات، في حين أننا لا نفكِّر مطلقًا بهول حرارة الجحيم الذي ينتظر كل مَنْ لم يستِقلّ قطار الحياة الأبدية؟!
لماذا الموازين مقلوبة بهذا الشكل؟
فلماذا نلوم ونتهم تلك الفتاة باتهامات عديدة، لأنها نامت ولم تهتم بأن ترى علامة المحطة المنشودة، ولا نلوم أنفسنا على سُباتنا الروحي ونومنا العميق وعدم اهتمامنا بحياتنا الأبدية؟
فحياتنا مثل القطار، وجميعنا مستقلّون هذا القطار وحتمًا هناك محطة وصول. ماذا عندما نستفيق من نومنا وقطار حياتنا قد وصل إلى محطة الوصول بلا رجعة؟
وإن كانت الخسارة، في موقف الفتاة هذا، خسارة وقتية لا تتعدى ضياع امتحان أو حتى رسوبها في العام الدراسي، إلا إن الأمر أخطر بما لا يقاس عندما يتعلق بحياتنا - تلك الحياة التي نحياها مرة واحدة فقط ولا سبيل لاستعادتها مرة ثانية في حالة خسارتها - ومع ذلك لا نأبه بأن نسأل عن الطريق المؤدي للحياة الأبدية!
«هذَا وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ الْوَقْتَ، أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ» (رومية13: 11)