* سمعتها من طالب “ناطِط” من سور مدرسته، “زِهِق” بعد الحصة الثانية.. “رايح فين؟!” يُجيب: “هاخطف ساندوتش فول.” “طيب والمدرسة؟!” يُجيب: “يا راجل إنت لِسة فاكر! البقاء لله في التعليم!”
* قرأتها في صفحة “الإعلانات”؛ أقصد “الوفيات”، يفقد فيها الموت هيبته أمام أصل وكرامة العائلات، نفاق وتحيات بدل الدروس والعظات، رجعوا للمَثَل القديم: “الخواجة ينعي والده ويُصلِّح ساعات!!! البقاء لله!”
* سمعتها من طبيب يصل متأخرًا لمريضٍ يحتضر، لا يهمه سوى أخذ “أجرة إيده” مُقَدَّمًا، بعد لحظات يخرج قائلاً: “عملنا اللي علينا، الحِساب مع التمرجي، والبقاء لله!”
قبل أن تنعتني بالتشاؤم من أجل اختيار هذه الكلمة، دعني، عزيزي، أصرِّح لك أنها ليست كما تبدو؛ صحيح أن أغلب الناس يستخدمها فقط للتعزية والمواساة أو حضور “مُهِم” كما يسمَّى في قرى الصعيد، لكننا هنا سنتناولها بالمعنى الأشمل والأهم والمُفرِح، الموجود يقينًا خارج سرادق العزاء.
“البقاء لله” هي استغراب!
تستفزني جملة إعلامية تُقال عند رحيل فنان أو مُبِدع في مجاله، فيقولون: “لقد رحل بجسده ولكن بقيَ بأعماله”، ولكن هنا يحضرني تساؤل هام: كيف تبقى الأعمال وقد رحل أصحابها؟! وإذا طال الفناء البشر، فهل يصعب عليه الحجر؟!
فماذا تبقّى من سُمعَة رجل الأعمال الذي عظَّم “مدينته”، سوى شهوة منفلتة ألقت به في السجن، وسيرة مقزِّزة على كل لسان؟! وماذا تبقى من صوت وشهرة المطربة المقتولة بـ“آلي” زوجها، سوى “ذِكرَى” لليلة دموية سوداء؟! ولو أمكن لهؤلاء - وغيرهم كثيرين - أن يصرخوا مجيبين عن هذا التساؤل، لقالوا جميعًا: لم يتبقَّ لنا شيء قط، فالبقاء لله!
لكن يلي هذا التساؤل الهام استغرابٌ أهم؛ إذا كان فعلاً “البقاء لله” وحده دون سواه، فلماذا القتل والكراهية والخصام بين البشر، من أجل ميراث أو منصب أو مال أو حتى متر أرض فانٍ؟! وكيف يُضيِّع الإنسان حياته مرتبطًا بما هو فانٍ، ويتجاهل علاقته بمن هو باقٍ؟!
وحتمًا سيزول هذا الاستغراب عند الاقتراب من كلمة الله، التي وصفت خطوات البشر للابتعاد عن الله في رومية1، وكان أساسها أنهم «أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى...» (رومية1: 23)، فالإنسان استبدل كل ما هو باقٍ مصدره الله، بكل ما هو فانٍ مصدره الإنسان؛ حتى يهرب من قداسة الله ويحلو له فِعل الخطية دون رادِع. وأمسى لا يتذكر وجود الله في حياته، إلا بلسانه فقط، وفي وقت العزاء فقط، قائلاً: البقاء لله!
“البقاء لله” هي مقارنة
إن كانت تجارب الناس تشهد أن “البقاء لله”، فلا يوجد أعظم من شهادة كلمة الله التي توضح هذا الحق؛ فطبيعة الله هي ضد التغيُّر والفناء، فحاشا أن يبقى سواه، وحاشا أن نقارنه حتى بعطاياه. لكن إن استدعى الأمر المقارنة، فالله أبقى من خليقته: «أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك؛ هي تبيد وأنت تبقى» (مزمور10: 25). وبالتبعية الله أبقى من الإنسان، فرغم أن نفسه حية لأن مصدرها الله (تكوين2: 7)؛ إلا إن جسده تُرابي قابل للفناء (تكوين3: 19). وأخيرًا فالله أبقى من كل الأمم والإمبراطوريات: «لأن الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد وخرابًا تخرب الأمم» (إشعياء60: 12).
ولن أسترسل في مقارنة محسومة تبرهن حقيقة بقاء الله وفناء كل شيء عداه، لكنني سأشترك مع بولس الرسول في الهتاف قائلاً: «وملك الدهور الذي لا يفنى ولا يُرَى الإله الحكيم وحده له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور. آمين» (1تيموثاوس1: 17). هنا تنتهي المقارنة وينتفي الشك، ويُحسَم الأمر فـ“البقاء لله”!
“البقاء لله” هي التقاء
رغم أن طبيعة الله “الباقية” تتعارض تمامًا مع طبيعة البشر “الفانية”، إلا إن الله في نعمته سُرَّ أن يَهَب بركاته الأبدية “الباقية” للبشر الآثمين “الفانين”؛ فالتقى ما هو أبدي وباقٍ، بمن هو تراب وفانٍ! وتم هذا الالتقاء كالآتي:
* أرسل الله ابنه “الباقي”؛ المسيح الذي «يبقى إلى الأبد» (يوحنا12: 34)، لكي يفدي البشر بدمه «لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب،... بل بدم كريم (“الباقي” الأثر)» (1بطرس1: 18)، وعندها التقى دم المسيح بخطايا وتعديات البشر، وبذلك ضمن التائب غفرانًا وتبريرًا وخلاصًا أبديًا، لأنه مرتبط بقيمة وتأثير دم المسيح الذي لن يزول!
* قرَّر الله أن يتبَنَّى أولئك الذين غُفِرت خطاياهم إذ تابوا إليه، وأن يلدهم ثانية في المسيح «لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية “الباقية” إلى الأبد» (1بطرس1: 23). وعندها التقى قلب الآب المحب بأشواق أولاده الذين قبلوه (يوحنا1: 12)؛ وبذلك ضمن الأولاد بقاءهم أبديًا، لأنه مرتبط ببقاء أبيهم الذي حتمًا لن يزول!
* أعدّ الله ميراثه “الباقي” الذي «لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل» (1بطرس1: 4)، بل وعد من يجتهد في الحياة معه أن يمنحه «إكليلاً لا يفنى» (1كورنثوس9: 25)، وعندها التقت هبات الله المكنوزة من الأزل، باحتياج الوارثين المُنعَم عليهم، بميراث لن يزول!
فما أعظمه التقاء، فقد صار المفديون هم أكبر المستفيدين من هذه الكلمة الرائعة “البقاء لله”!
عزيزي القارئ المشتاق للبقاء، ما لي أراك متمسكًا بكل ما هو فانٍ وزائل في الحياة، متغاضيًا في نفس الوقت عن كل ما أعده الله من بركات ومكافآت أبدية؟! هيا انفض يدك منه بإرادتك، قبل أن ينفضك هو من الحياة! واطلب الله “الباقي” في حياتك، معترفًا بمحدوديتك وزوالك، فيدخل قلبك جالبًا معه كل ماهو أبدي، فتهتف فرحًا (ربما لأول مرة) وأنت تقولها من قلبك: البقاء لله!!
ضحكوا عليك اللي قالوا لك: فيه شيء باقي
اجري وراه يمكن توصلّه وتلاقي
لحظة من فضلك،
اُقف والتفت لصوت الإله
واسأل: فيه حد شاطر
خد حاجة وياه؟!!
هتلاقي الكل بيجاوبك:
البقاء لله!
ما تيجي بقى بخطيتك
تلتقي بدم الإله
هايعلّيك ويخليك إنت الفاني...
ابن، ووارث، وباقي!