إنقاذ الناس من منجم الذهب والنحاس
في صباح يوم الخميس 14/10/2010 وبالتحديد في الساعة 12:55 بتوقيت جرينتش، انتهت عملية إنقاذ 33 عاملاً ظلوا محصورين في منجم في باطن الأرض، على عمق 625 مترًا، لمدة 69 يومًا. وقد وصف الكثيرون بقاءهم على قيد الحياة طوال تلك الفترة بأنها معجزة.
وكان منجم سان خوسيه للذهب والنحاس، في صحراء أتاكاما في تشيلي، قد انهار في 5/8/2010. حيث تسببت كُتَل صخرية منهارة، يُقدَّر وزنها بـ700 ألف طن، في إغلاق مدخل المنجم، مما أدى إلى محاصرة العمال. ولكن خزانات المياه وفتحات التهوية ساعدت عمال المنجم على البقاء على قيد الحياة طوال هذه الفترة.
وبعد سبعة أيام من حدوث الانهيار، اعتبرت السلطات التشيلية أن فرص العثور على العمال أحياء “ضئيلة جدًا”. لكن تحت ضغط الأهالي الذين اعتصموا في المكان غداة حدوث الانهيار، واصل رجال الإنقاذ جهودهم، حتى تمكَّن مِثقاب استكشاف أنزله فريق الإنقاذ إلى قاع المنجم من التقاط رسالة كُتبت على ورقة تحمل عبارة أصبحت ذات شهرة عالمية: “نحن بخير، جميعنا الـ33 أحياء في الملجإ تحت الأرض، نعاني من الجو الحار والرطب”. وكان هذا بعد 17 يومًا من انهيار المنجم، وطوال هذه المدة كان يُعتقد أن العمال لقوا حتفهم.
وقد قام عمال الإنقاذ بحفر نفق عمودي ضيق يمتد إلى المكان الذي يوجد فيه العمال المحاصَرون، واستُخدم هذا النفق في إدخال أنابيب بلاستيكية لكي يصل من خلالها الطعام والشراب لعمال المنجم.
أما خطة الإنقاذ الأصلية فاشتملت على إحداث ثقب داخل الصخور في شكل بئر عمودية بعمق 625 متر، للوصول إلى الحجيرة المحاصر فيها العمال لأكثر من شهرين. وعمد المهندسون إلى تبطين هذه البئر بأنابيب معدنية لحماية جدرانها من انهيار النفق أثناء عملية الإنقاذ، ولتسهيل عملية مرور كبسولة إنقاذ عبر الصخور.
أما عن هذه الكبسولة فقد صُمِّمت بإشراف وكالة ناسا الأمريكية للفضاء، وأُطلق عليها اسم “فينيكس” وهو اسم طائر “العَنْقَاء” الخيالي الذي تصفه الأساطير القديمة بأنه يمتاز بالجمال والقوة، وأنه عندما يموت يحترق ويصبح رمادًا، ثم يخرج من الرماد طائر عَنْقَاء جديد، وكأنها قيامة من الأموات.
والكبسولة تتصل برافعة لتجعلها تعمل كالمصعد، وهي أطول وأعرض بعشرة سنتيمترات من طول وعرض كتفي العمال. وقد زُوِّدت الكبسولة بأسطوانات الأوكسچين لتسهيل عملية التنفس، بالإضافة إلى هاتف يؤمِّن عملية الاتصال مع المُنقِذين على سطح الأرض. وأثناء رحلتهم إلى السطح ارتدى العمال طقمًا بيولوجيًا شبيهًا بذاك الذي يرتديه رواد الفضاء لرصد معدل دقات القلب والتنفس، واستهلاك الأوكسچين.
وكان أول مَنْ دخل إلى هذه الكبسولة، ليقوم برحلة إلى قاع المنجم، خبير الإنقاذ “مانويل جونزاليس” (والاسم “مانويل”، وفي العربية “عِمَّانُوئِيلَ” «الذي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا» (متى1: 23). وقد غادر “مانويل” سطح الأرض، داخل الكبسولة المعدنية، متوجهًا داخل النفق العميق الذي يؤدّي إلى المنجم المنهار نازلاً حيث كان ينتظر العمال العالقون هناك، منذ أكثر من شهرين.
وبعد دقائق قليلة، وصل “المُنقِذ” إلى قاع المنجم حيث استقبله العمال بالتصفيق والتهليل، أمام كاميرا تم نصبها في المكان. وقد وصف “مانويل” لقاءه بعمال المناجم بالكثير من التأثر، قائلاً: “العمال احتضنوني وشكروني لكوني أول من يصل إليهم، وكنت سعيدًا لدى رؤيتهم”.
وقد قدم “مانويل” للعمال التوجيهات الضرورية عندما يستقلون الكبسولة إلى سطح الأرض. وقد أشرف بنفسه على خروج العمال، واحدًا بعد الآخر، على مدى اثنين وعشرين ساعة. وكان آخر شخص يصعد إلى سطح الأرض، بعد نجاح العملية التي تابعها العالم بإعجاب وتأثر شديدين، وانتهت بخروج الجميع من جوف الأرض.
وقد أشرف الرئيس التشيلي على عملية الإنقاذ التي حظيت باهتمام عالمي غير مسبوق. ووصففها بالمعجزة، وقال: “كُنَّا على يقين أن عمالنا على قيد الحياة، وأننا سننقذهم. لقد قُلنا إننا سنعثر عليهم، وعثرنا عليهم. وقُلنا إننا سننقذهم سالمين، وها قد فعلنا”. وقالت الحكومة التشيلية إن عملية الإنقاذ التي كلَّفت ما قيمته نحو 22 مليون دولار أمريكي ليست شيئًا هامًا بالنسبة لإنقاذ الأرواح.
وكانت النهاية نهاية سعيدة لتشيلي ولأبنائها، وللعالم أجمع.
ويا لروعة ما أوحت به هذه القصة لي! إنها ذكَّرتني بقصة خلاصنا وإنقاذنا نحن، و“بعِمَّانُوئِيلَنا الحقيقي”؛ «رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا، لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ» (غلاطية1: 3، 4).
لقد نزل ابن الله إلى هذا العالم، نزل بمحض إرادته، مُستترًا في الناسوت الذي تهيَّأ له، مُخليًا نفسه من هالة المجد، وساترًا صورة الله تحت صورة العبد، لكي يستطيع أن يفعل مشيئة الله، ويتمِّم المشورات الإلهية، لمجد الله وخلاص الخطاة، بإتمام عمل الصليب.
لقد أرسل الله ابنه ليَخدِم ويَبذِل نفسه فدية عن كثيرين (متى20: 28)، ولكي يطلُب ويُخلِّص ما قد هلك (لوقا19: 10)، و«بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي» (عبرانيين1: 3)، «وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضًا أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى. اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأ الْكُلَّ» (أفسس4: 9). ولقد أعطانا الرب يسوع المسيح هذا الوعد: «آتي أيضًا وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا» (يوحنا14: 3). والذي وعد هو أمين (عبرانيين10: 23)، وهو لا ينسى قَطّ ما وعد به.
ربما يتزلزل العالم، وتهتز الأرض، وتنهال الصخور، ويصبح كل ما حولنا رُكامًا وأنقاضًا وحطامًا، أدبيًا وروحيًا، سياسيًا واقتصاديًا؛ فالزمان صعب.. والإثم يتزايد.. مبادئ الارتداد تزداد قوة وتأثيرًا.. الفوضى سائدة في كل مكان.. والناس قائمون ضد القوانين والأنظمة.. الثورات والاضطرابات في جميع الأنحاء.. والشرور تزداد بلا خجل ولا حياء.. الكُفر والإلحاد والفجور والإباحية تنتشر.. كل القِيَم الروحية تُهدَم.. والشر يزداد «إلى أكثر فجور»، و«إلى أَرْدَأ». فنحن في «الأيام الأخيرة» و«الأزمنة الصعبة» (2تيموثاوس2: 16؛ 3: 1، 13).
ولكن ربنا يسوع المسيح آتٍ من الأعالي ليأخذنا إليه من وسط كل هذا الحطام وكل هذه الخرائب. فما أحرانا أن نرقب مجيئه عالمين أن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمَنَّا. وفي انتظارنا لمجيئه القريب لنكون معه كل حين (1تسالونيكي4: 17)، لترتفع قلوبنا وأنظارنا عن مشهد الخراب والأنقاض هذا، ولتتشدد سواعدنا لنكون أمناء حتى النهاية، وليكن لهجنا المستمر ولغة القلب قبل الفم: «آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ»!