لعلك قلتها معي متأثرًا، حين قرأت الخبر المفجع. فلم ينمحِ بعد من الذاكرة كارثة تسونامي 2004، وكَمِّ الكوارث الطبيعية التي تلته، ولم نهدأ من الزلازل الإنسانية التي تجتاح منطقتنا، ولا من أخبار البلطجة والجريمة وعدم الاستقرار؛ حتى أتت الأخبار المزعجة لتضيف إلى مواجعنا مواجع وإلى همومنا همومًا. لقد أصبحت الأمور أسرع مما يمكننا أن نتابع، حتى ما صار ممكنًا للمرء أن يلاحق الأخبار هنا وهناك، بل لم يعد الواحد يجد فرصة ليبتلع ريقه خلف كل فاجعة قبل أن يفاجأ بالأخرى!!
وكان السؤال: هل نكتب عن هذه المأساة أم يكفي ما سبق وكتبناه في مناسبات مشابهة؟ ولا أخفيك كم الحيرة للإجابة عن هذا السؤال. قررنا في النهاية أن نكتب، ولا بد لكل ذي بصيرة أن يستفيد دروس جديدة مما حدث.
ففي ظهر 11 مارس 2011 ضرب زلزال عنيف بقوة 8.9 ريختر شمال شرقي اليابان، ويُعد خامس أقوى زلزال مسجَّل في التاريخ (والتي يتصدرها زلزال تشيلي 1960 بمقدار 9.5 ريختر)!! ورغم أن مركزه كان في قلب المحيط الهادي على بعد حوالي 400كم من العاصمة طوكيو، إلا أن تأثيره عمّ معظم أنحاء البلاد حاملاً الرعب معه. وقد أعقب هذه الهزة الأرضية سلسلة من الهزات الأخرى القوية خلال الساعات التالية. وزاد الأمر مأساوية موجات “تسوماني” بارتفاع ثلاثة أمتار، غمرت المنازل وجرفت كل شيء أمامها. ومن قوته، امتدت آثار التسونامي لتصل إلى أمريكا ونيوزيلندا على بعد آلاف الكيلومترات!!
وتقع اليابان ضمن ما يُعرف باسم “طوق النار” أو “حزام الزلازل”، وهو خط الهزات الأرضية وثورات البراكين. لذا تشهد نحو 20% من الهزات الأرضية التي تقع في العالم التي تتجاوز قواتها 6 درجات. على أن الغريب أن المنطقة التي تأثرت بشدة ليست ضمن “طوق النار” مما أثار دهشة المراقبين من حجم الكارثة!!
قدَّرت السلطات اليابانية أن حصيلة القتلى من ضحايا الكارثة الطبيعية تجاوزت 1800 شخصًا معظمهم قضى غرقًا، عدا عشرات الآلاف من المفقودين؛ حتى أن نصف سكان بلدة ميناميسانريكو اليابانية يُعتبروا في عداد المفقودين. وقد اندلعت حرائق شديدة، وانقطعت الكهرباء في مناطق كثيرة، وتعطلت شبكة القطارات، بل واختفى قطاران من على وجه الأرض بركابهما! لكن الرعب الكبير كان بسبب مجمع فوكوشيما النووي والذي يقع على بعد 240 كيلومترًا شمالي العاصمة طوكيو، إذ توقع تسرب إشعاعي خطير، حيث قال مسؤلون إن مستويات الإشعاع في مفاعل (فوكوشيما 1) ارتفعت ألف مرة أكثر من المستوي العادي.
والجدير بالذكر هو ما ذكرته جريدة “نيويورك تايمز” أن انضباط اليابانيين وإخلاصهم قلَّلا عدد ضحايا الزلزال، واعتبرت أنه ربما لا توجد أى دولة أخرى فى العالم قادرة على مضارعة اليابانيين فى الالتزام الصارم بأكواد البناء لإقامة مبان يمكنها الصمود أمام أعتى الزلازل. ومع كل هذا كانت تلك الخسائر الرهيبة!!
دارت بعض التساؤلات في خاطري:
* أإلى هذه الدرجة أرضنا التي نعيش عليها متقلقلة، ومنقلبة، وغادرة؟ فهل يصلح إذن أن نبحث فيها عن الأمان؟ أم أن الأمان لن يأتي إلا من خارجها؟ من عند خالقها، صانع السماوات والأرض؟
* البعض يخافون من البحور، والبعض يخافون من الأماكن العالية أو التحليق، لكن كلنا يعتبر الأرض “ثابتة”، فنسمع تعبيرات مثل “قف على أرض صلبة”، لكن هل الأرض بحق ثابتة وصلبة؟!! أم أن الزلازل وتفسيرها العلمي يقولان غير ذلك؟ هل ما فيها ما يمكن أن نبني عليه مستقبلنا؟
* ألسنا جميعًا نعيش فوق “طوق النار” بمعنى أو بآخر؟ فإن كان كل ما يرتبط بهذه الأرض متزعزع وزائل، يتغير في لحظة ويزول في غمضة عين، بل وقد ينقلب إلى ما لا نتمناه في وقت لا نتوقعه.
* وحتى من يعتقدون أنهم ليسوا فوق “طوق النار”، هل هم في آمان؟ أم هم يعتقدون ذلك وفجأة، في وقت متأخر يكتشفون عكس ذلك؟ إني أسألك بصفة خاصة من ناحية أمانك الأبدي: أين ستكون في الأبدية؟
* ألا يضاف أيضًا “الرعب النووي” أي الخوف من الإشعاعات النووية الناجمة عن تكنولوجيا ظن الإنسان أنها لخدمته فإذ بها لرعبه؟ كثيرًا ما اعتقدنا في أشياء أنها خيرنا، ولم تكن هكذا.
* قد يتساءل المرء: إن الزلازل منذ القديم، وعهد الأرض بالكوارث بعيد؛ فما الجديد؟ ألا يلفت النظر تصاعد شدة هذه الكوارث، وزيادة عددها وتقارب زمن حدوثها؟ تعبير بليغ في كلمة الله يستحق أن نتوقف عنده هنا إذ يصف أحداث آخر الأيام والهلاك النهائي بالقول «حِينَئِذٍ يُفَاجِئُهُمْ هَلاَكٌ بَغْتَةً، كَالْمَخَاضِ لِلْحُبْلَى، فَلاَ يَنْجُونَ»، وأقصد تعبير «كَالْمَخَاضِ لِلْحُبْلَى»، أي الآلام التي تعانيها المرأة في سبيل ولادة طفلها. ومن العلم نعرف أن هذه الآلام تبدأ خفيفة وعلى فترات متباعدة، ثم تتزايد في قوتها وفي معدل حدوثها، إلى أن تصل إلى شدة قوتها وأكبر معدل لها قبل الولاد مباشرة. ولعل هذا ما يحدث حولنا الآن.
لنسمع ما يقوله كاتب رسالة العبرانيين (12: 26-29) أن الله «وَعَدَ قَائِلاً: “إِنِّي مَرَّةً أَيْضًا أُزَلْزِلُ لاَ الأَرْضَ فَقَطْ بَلِ السَّمَاءَ أَيْضًا”. فَقَوْلُهُ “مَرَّةً أَيْضًا” يَدُلُّ عَلَى تَغْيِيرِ الأَشْيَاءِ الْمُتَزَعْزِعَةِ كَمَصْنُوعَةٍ (أي: يشير إلى أنه سوف يزيل كل ما ليس له أساس متين باعتباره مخلوقًا – ترجمة تفسيرية)، لِكَيْ تَبْقَى الَّتِي لاَ تَتَزَعْزَعُ». وبناء على أن كل شيء على هذه الأرض بُني على غير أساس، فالأرض نفسها ليست بأساس متين، فكل ما عليها إلى زوال؛ لذا جدير بنا أن نستمع إلى نصيحة الكاتب «لِذلِكَ وَنَحْنُ قَابِلُونَ مَلَكُوتًا لاَ يَتَزَعْزَعُ لِيَكُنْ عِنْدَنَا شُكْرٌ بِهِ نَخْدِمُ اللهَ خِدْمَةً مَرْضِيَّةً، بِخُشُوعٍ وَتَقْوَى».