ربما ليس من السهل علينا ونحن في نهاية القرن العشرين، أن نتصور ما كانت عليه المسيحية في القرون الماضية. وكيف تحمّل القديسون الآلام وتعرضوا للاستشهاد نظير تمسكهم بإيمانهم وشهادتهم للمسيح. لكننا هنا نقتطع صفحة واحدة من السجل الكبير الذي لا يعلم كل ما فيه إلا الرب وحده، والذي سيُنشر على جموع القديسين في السماء عن قريب أمام كل الملائكة.
قال المسيح «كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله» (لوقا12: 8). ومن هؤلاء الشهداء الأبطال : قسطنطين المدعو سلوانس
حوالي عام 653 م أُطلق سراح شماس أرمني من الأسر عند المشارقة. وفي طريق عودته إلى وطنه قابل رجلاً يُدعى قسطنطين كان يعيش في قرية مناناليس فى تخوم نهر الفرات، فرحَّب به قسطنطين في بيته واستضافه. ولقد أدرك الرجل الأرمني أنه أمام رجل ذي مواهب فذة، وإذ رأى كيف كان مُضيفه شديد الاهتمام بالكتاب المقدس الذي كانا يقرآنه سويًا، فقد أهدى صديقه الجديد - عرفانًا بجميله وتقديرًا لمواهبه - مخطوطًا ثمينًا حوى الأناجيل الأربعة ورسائل بولس الرسول، فعكف قسطنطين على دراستها وأصبحت شغله الشاغل، فكان ذلك سببًا لتغيير حياته تغييرًا شاملاً، وسرعان مابدأ يشهد بما وصل إليه، وغيّر اسمه إلى سلوانس رفيق الرسول بولس، وربط سلوانس نفسه بجماعات من المؤمنين الذين رفضوا عبادة التماثيل واتباع الخرافات التي انتشرت فى المسيحية في ذلك الوقت. وبذلك استجلب على نفسه غضب السلطات.
دائرة خدمة قسطنطين :
اتخذ قسطنطين كيبوصا في أرمينيه مقرًا له وجعلها مركزًا لعمله وسط الشعوب المجاورة وذلك لمدة نحو ثلاثين سنة. فتغيّرت بسببه حياة الكثيرين من المسيحيين الاسميين وكذلك الوثنيين، ولقد سار في تنقلاته حتى وادي الفرات وعبر جبال طورس وجال في الأجزاء الغربية من آسيا الصغرى حتى استرعت خدماته الناجحة انتباه الامبراطور البيزنطي قسطنطين بوغاناتوس. أصدر هذا الامبراطور مرسومًا ضد جماعات المؤمنين وضد قسطنطين بالذات وأرسل أحد قواده المدعو شمعون لتنفيذ المرسوم .
استشهاد قسطنطين
لكي يضفي شمعون على إعدام قسطنطين روعة ورهبة زوَّد بعض أصدقاء قسطنطين الشخصيين بالأحجار، وأمرهم أن يرجموا المعلم الذي طالما احترموه وأحبوه. ولكنهم رفضوا جميعًا تنفيذ الأمر مخاطرين بحياتهم وألقوا الأحجار جانبًا، إلا أن أحد الشبان الموجودين ويُدعى يسطس، وكان قسطنطين قد تبناه ورباه وعامله بلطف وحنان، هذا الشاب رمى قسطنطين بحجر فقتله، ونال شكر ومكافأة السلطات التي شبهته بداود الذي قتل جليات !!
شمعون القائد
أما شمعون - قائد الامبراطور - فتأثر بشدة مما رآه وسمعه في كيبوصا وأخذ يتحدث مع المؤمنين هناك، فاقتنع بصدق تعاليمهم واستقامة حياتهم، وعندما رجع إلى القسطنطينية لم تستطع نفسه أن تجد سلامًا في البلاط الامبراطورى وبعد ثلاثة أعوام من الجهاد النفسي ترك كل شيء وهرب إلى كيبوصا وهناك اتخذ لنفسه اسم تيطس وتولى إتمام العمل الذي بدأه قسطنطين ذلك الرجل الذي تولّى هو نفسه تعذيبه وقتله !!
إعدام شمعون
ولم يمضِ وقت طويل حتى انضم شمعون نفسه إلى جماعة الشهداء إذ أنه بعد سنتين استغل يسطس معرفته بأماكن الأخوة ووشى بهم عند الأسقف الذى بدوره أبلغ الامبراطور جستنيان الثاني فكان ذلك سببًا في القبض على عدد كبير منهم، وإذ أراد الامبراطور أن يرهب بقية المؤمنين ويضطرهم للإذعان وترْك شهادة الحق والخضوع للخرافات التى دخلت المسيحية، لذلك أمر بحرق هؤلاء الأسرى جميعاً وبينهم شمعون وهم أحياء دفعة واحدة، ولكن قوة احتمال هؤلاء الأبطال وشجاعتهم وتمسكهم بالرب فوتت على الامبراطور أغراضه، بل على العكس ألهبت إيمان الكثيرين وشجاعتهم وجعلتهم يتقدون غيرة في التعبد والشهادة، فازداد عدد المبشرين والمعلمين، وتكاثرت الجماعات وهكذا أخرج الرب من الآكل أُكلاً، ومن الجافي خرجت حلاوة.