الشيطان وتجربة المسيح في البرية
(متى4 ؛ لوقا4)
بعد أن اعتمد يسوع من يوحنا في الأردن، حيث فُتحتْ له السماء، ونزل الروح القدس مثل حمامة مُستقرًا عليه، وصوت الآب أعلن أن «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت»، رجع يسوع من الأردن «مُمتلئًا من الروح القدس»، وأُصعد بالروح إلى البرية ليُجَرَّب من إبليس. وكان هناك أربعين يومًا في أصعب الظروف يواجه المُجرِّب. لم يكن في جنة كآدم بل في البرية. لم يكن مع أحباء أو أصدقاء يجد منهم المعونة والتشجيع بل كان وحيدًا ومع الوحوش. وكان صائمًا وجائعًا طوال الأربعين يومًا. كان كل شيء بحسب المنظور معاكسًا وفي صالح المُجرِّب، ولا يوجد شيء واضح وملموس يؤكد صلاح الله واعتناءه.
التجربة الأولى
لقد سمع الشيطان شهادة الآب قائلاً: «أنت ابني الحبيب بكَ سُررت»، فأتى من هذه الزاوية قائلاً: إن كنتَ ابن الله وموضوع مسرته، فكيف يتركك جائعًا لمدة أربعين يومًا دون أن يُقدِّم لك رغيف خبز واحد؟ أين الاعتناء الأبوي الطبيعي الذي يهتم ويدبِّر الاحتياجات الأساسية للابن الحبيب؟ ثم أليس بمقدورك أن تُصيِّر كل الحجارة التي حولك خبزًا لتأكل، أو على الأقل حجرًا واحدًا رغيفًا واحدًا، فلماذا لا تفعل؟ هل الأكل خطية؟ أليس هذا احتياجًا طبيعيًّا للجسد؟ على أن المسيح، وهو الابن المطيع الذي جاء لا ليفعل مشيئته بل مشيئة الذي أرسله، لم يفعل شيئًا بالاستقلال عن ابيه، وكان طعامه أن يفعل مشيئة الآب ويُتمِّم عمله. وكان هذا أهم بكثير من إشباع احتياجاته المشروعة. لم تكن المسألة ما في مقدوره أن يفعله بل ماذا يريد منه الآب أن يفعل، وكان أروع مثال للخضوع، ولم يتذمر قط في أي يوم بسبب الظروف الصعبة التي أحاطت به. لذلك أجاب على المُجرِّب قائلاً: «مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله». بمعنى أنه ليس بإشباع الاحتياجات يحيا الإنسان بل الحياة الحقيقية السعيدة هي فعل إرادة الله وطاعته.
كان إسرائيل في البرية أربعين سنة، وهناك أظهروا كل عناد وتذمرات على الرب، خاصة في موضوع الأكل. لقد كشفت البرية ما في قلوبهم من فساد وعدم إيمان وشهوات رديَّة. أما المسيح فقد كشفت البرية ما في قلبه من نقاء وإيمان واتكال وطاعة وخضوع وكمال بلا حدود. ونحن أيضًا في البرية، أي في الظروف غير المُسِرة ووسط الضغوط، يزداد عندنا الشعور بالاحتياج والرغبة في إرضاء الذات، حتى لو كان ذلك على حساب إرادة الله. ليتنا نتعلَّم من السيد الذي رفض عرض المُجرِّب قائلاً: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ونعرف المعنى الحقيقي والقيمة للحياة.
التجربة الثانية
أخذه إبليس وأوقفه على جناح الهيكل في المدينة المقدسة، وقال له: «إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب: إنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك». قال له يسوع: «مكتوب أيضًا لا تُجرِّب الرب إلهك». كان قصد إبليس أن يشكِّكه في صدق مواعيد الله. وكأنه يقول: طالما أنت تحيا بكل كلمة من فم الله، دعنا نرى شيئًا عمليًّا: هل هذه المواعيد في المكتوب لها مصداقية أم لا؟ إن الشَّك ينتج من عدم الإيمان، وهذا ما ظهر من إسرائيل في البرية، حيث جرَّبوا الرب قائلين: أفي وسطنا الرب أم لا؟ ومرة أرسلوا جواسيس ليتجسسوا الأرض لأنهم لم يثقوا في مواعيد الله. ولكن هل الابن الوحيد الكامل نظير إسرائيل يحتاج أن يمتحن ويراجع مواعيد الله لكي يتأكد من صحتها ومصداقيتها؟ حاشا! لقد كان يثق كل الثقة في الله أبيه نفسه وفي هذه المواعيد، ولذلك قال للمُجرِّب: «مكتوب أيضًا: لا تُجرِّب الرب إلهك».
التجربة الثالثة
أخذه الشيطان إلى جبل عظيم عالٍ وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له: «أعطيك كل هذه إن خررتَ وسجدتَ لي». وكأنه يقول: ماذا أعطاك الله؟ لقد تركك جائعًا ولم يُعطِك رغيف خبز واحد لمدة أربعين يومًا؛ فلماذا تحبه وتعبده وتسجد له؟ أنا سأعطيك كل ممالك العالم ومجدها، فأنا رئيس هذا العالم وأعطيه لمن أشاء، فقط تسجد لي. ولكن ما أروع الابن الوحيد! لقد كان يحب أباه رغم كل الحرمان والفقر العميق، يحبه لشخصه وليس لأجل عطاياه. فأجاب: «مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد».
في التجربة الأولى عرض عليه الخبز وفي الأخيرة جميع ممالك العالم ومجدها، وما بينهما مَرَّ بكل صور التجارب والإغراءات. في الأولى وضعه أمام تجربة شهوة الجسد، وفي الأخيرة أمام شهوة العيون، وفي المنتصف أمام تعظُّم المعيشة والكبرياء، إذ يُظهر نفسه للعالم. وهو نفس الأسلوب الذي اتَّبعه في الجنة مع الإنسان الأول. عرض الشيطان المُلك على المسيح، ولكن المسيح كان أمامه الصليب أولاً واعتبارات مجد الله التي جاء ليردها. وبالطبع فهو لن يأخذ المُلك من الشيطان بل من الآب الذي قال له: «اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصي الأرض مُلكًا لك». ونحن أيضًا «إن كُنا نصبر فسنملك أيضًا معه».
ويمكننا أن نرى عوامل النصرة في تجربة المسيح من إبليس على النحو التالي:
* قبل التجربة، كان يصلي في المعمودية. ونحن حريٌّ بنا أن نسهر ونصلي لئلا ندخل في تجربة. وإذا جاءت التجربة نكون مُحصَّنين بالصلاة ومُؤيَّدين بالقوة.
* رجع من الأردن مُمتلئًا من الروح القدس. ونحن نحتاج إلى قوة وتعضيد الروح القدس الذي يمتلكنا ويحرِّكنا ويسيطر علينا، لضمان النصرة في أي تجربة.
* استخدم المكتوب والأقوال الإلهية المناسبة في المواقف المختلفة، وربما كان يقرأها أو يرددها ويلهج بها في ذات الصباح، وعرف كيف يستخدمها مع المُجرِّب. وكانت جميع الاقتباسات من سفر التثنية ص6-8. فهل نحن نلهج في هذه الكلمة وتعيش بداخلنا ونعرف كيف نستخدمها في المواقف المختلفة؟
ليتنا نتمثل بسيدنا فتتحقق النصرة عمليًّا في حياتنا مهما كانت حِيَل العدو ومكايده!