كثيرًا ما كنت أتعجب من حفظ أحد خدام الرب لكلمة الله بصورة لم أَرَها من قبل؛ فهو بلا مبالغة يحفظ كلمة الله فعلاً. ومن شدة حيرتي لكيفية حدوث هذا الأمر الذي لا أراه سهلاً بالنسبة لي، تجرّأت وسألته يومًا عن سر حفظه لكلمة الله بهذا الشكل، فأجابني بقصة حدثت معه وهو شاب صغير رأيت أن أشارك بها الأعزاء قُرّاء مجلة نحو الهدف. قال لي خادم الرب:
“كانت مشكلتي دائمًا، وخصوصًا وأنا في بداية شبابي، في فكري الذي كان يعمل ليلَ نهارٍ دون توقف. حتى إنني كنت أشعر بضغط شديد من شدة التفكير ومن كثرة الأفكار التي كانت تملأ رأسي. وبالطبع بعد الإيمان أتعبني جدًّا تفكيري، وكان الشيطان يُلقي في رأسي بأفكار شكوك ومخاوف كثيرة، زادت من مشكلتي أكثر ومن حيرتي وتعبي أكثر وأكثر. وفي يوم من الأيام تقابلت مع أحد خدام الرب الأفاضل وشرحت له مشكلتي، وإذا به يفتح الكتاب المقدس ويقرأ لي هذه الآية. «مِنَ النَّهْرِ يَشْرَبُ فِي الطَّرِيقِ لِذَلِكَ يَرْفَعُ الرَّأْسَ» (مزمور110: 7). وعَلَّق ذلك الخادم على هذه الآية قائلاً: أنت يا بُنَي الحبيب من هذا النوع من البشر الذين لا يستطيعون أن يرفعوا رؤوسهم إلا حينما يشربون من كلمة الله. لن تستقيم أفكارك ولن يهدأ بالك إلا بالشرب من النهر. فَخُذها مني نصيحة واذهب ألقِ بنفسك بين يدي الله وتلذذ بكلمته كل يوم حتى تستطيع أن ترفع رأسك وتضبط أفكارك!
وقد وجدت العلاج فعلاً في هذه الكلمات. ومن ذلك اليوم وأنا مقتنع تمامًا أن كلمة الله هي العلاج لكل شكوكي ومخاوفي ومتاعبي. لذا فإنني أجد لذة في حفظها ومُتعة خاصة في ترديدها واللهج بها نهارًا وليلاً، وهذا هو السبب في حفظي لكلمة الله؛ لأنني أثق أن بها علاجي الوحيد ودوائي من كل داء يصيب ذهني وأفكاري.”
انتهى حديثي مع خادم الرب الفاضل بعدما عرفت أن السر لم يَكُن في إمكانياته العقلية، الفذة كما كنت أتوقع، أو قدراته الذهنية غير العادية. لكن السر، وكل السر، كان في ثقته أنه بدون كلمة الله هو إنسان ضعيف جدًّا لا يستطيع حتى مقاومة بعض الأفكار التي تراوده. وأنه إذا لم يشرب من النهر؛ الذي هو كلمة الله، فلن يستطيع أن يرفع رأسه في الطريق. ولأنه عَلِم بهذا الأمر واقتنع به كل الاقتناع، فقد استطاع بنعمة الله أن يعمل ما لم يستَطِع الكثيرون أن يفعلوه.
وهذا عين ما فعله الله قديمًا مع خادمه إيليا حينما طلب منه أن يذهب إلى نهر كريث وقال له الله وقتها: «انْطَلِقْ مِنْ هُنَا وَاتَّجِهْ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَاخْتَبِئْ عِنْدَ نَهْرِ كَرِيثَ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الأُرْدُنِّ، فَتَشْرَبَ مِنَ النَّهْرِ» (1ملوك17: 3، 4). وهذا يؤكد لنا أن الأمر ليس اكتشافًا، لكن الله منذ القديم يدرب أولاده ويعلّمهم أهمية الشرب من النهر؛ الذي يشير لكلمة الله، لأنه يعرف مقدار احتياجهم لهذا الأمر.
ولا يفوتنا أن نشير إلى ما ورد في كلمة الله في سفر التثنية والأصحاح السابع عشر، في الجزء الذي يتكلم عن وصايا الله لكل مَن يملك على شعب إسرائيل حيث يقول الكتاب: «وَعِنْدَمَا يَجْلِسُ عَلى كُرْسِيِّ مَمْلكَتِهِ يَكْتُبُ لِنَفْسِهِ نُسْخَةً مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي كِتَابٍ مِنْ عِنْدِ الكَهَنَةِ اللاوِيِّينَ فَتَكُونُ مَعَهُ وَيَقْرَأُ فِيهَا كُل أَيَّامِ حَيَاتِهِ لِيَتَعَلمَ أَنْ يَتَّقِيَ الرَّبَّ إِلهَهُ وَيَحْفَظَ جَمِيعَ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَهَذِهِ الفَرَائِضَ لِيَعْمَل بِهَا لِئَلا يَرْتَفِعَ قَلبُهُ عَلى إِخْوَتِهِ وَلِئَلا يَحِيدَ عَنِ الوَصِيَّةِ يَمِينًا أَوْ شِمَالاً. لِكَيْ يُطِيل الأَيَّامَ عَلى مَمْلكَتِهِ هُوَ وَبَنُوهُ فِي وَسَطِ إِسْرَائِيل» (تثنية17: 18‑20).
هنا الرب يؤكِّد على أهمية القُرب من كلمة الله وقراءتها واللهج بها كل يوم. فقد أمر الله بأن تكون مع الملك نسخة من الشريعة ليقرأ فيها كل أيام حياته، والسبب هو لكي لا يرتفع قلبه على إخوته.
وهنا يمكننا القول بأن قُربنا وجلوسنا يوميًّا أمام كلمة الله يجعلنا نختبر أمرين في غاية الروعة: فهو يرفع رؤوسنا كما جاء في مزمور110، وكذلك فهو يَضَع قلوبنا كما جاء في تثنية17. أو بمعنى آخر يجعلنا مرفوعي الرأس ومتواضعي القلب في ذات الوقت! وهذا هو المطلوب لنحيا حياة مستقيمة ونَقِي أنفسنا من حرب الشكوك والظنون التي تملأ عقولنا في كثير من الأوقات، وحتى لا تضيع أيام العمر في محاولة علاج أفكار وشكوك أصابت عقولنا لأوقات طويلة بسبب عدم القُرب من كلمة الله التي فيها كل الشفاء.
إذًا ليس تفضلاً مِنَّا أن نقرأ في الكلمة كل يوم، ولا هو مجرد إضافة مفيدة لنا في الحياة الروحية، بل هو احتياج ماس لنا وحاجة لازمة لنفوسنا، حتى نرفع الرأس بفخر وإيمان وحتى لا ترتفع قلوبنا على إخوتنا وننسى أننا ضعفاء مساكين بدون إلهنا. لذا فمن حق كل مَن يتمتع بكلمة الله في الشركة معه كل يوم أن نقول له: “أرفع رأسك فوق!