قرأتها على ظهر سيارة “موديل” التسعين تهرب من “أزمة” الثمانين! تجوب الشوارع و“المحطات” تبحث عن نقطة ارتواء! آخر النهار يمل منها صاحبها، فيتركها في أحد الحارات “عطشانة” تائهة، ومكتوب على زجاجها الخلفي: يا هادي!
كلمة بديعة تبرز عند المفترقات وتتراكم كلما كثُرت “اليُفَط” واللافتات، تنتشر في شارع لا يعترف بقواعد المرور، رغم أنها (في الحياة) من أهم قواعد السرور!
وهنا سنتأمل في روعتها وغزارة معانيها، خاصةً حين تخرج من فم مسكين تائه يقول: يا هادي!
يا هادي والمُفتَرَقات
يقولون إن أكثر خطر يهاجم الجندي وهو في صحراء البرية ليس الجوع أو العطش؛ لكنه خطر الضلال والتوهان! نعم فالبرية لا مجال فيها للهداية، وإذا خطا الإنسان خطوة واحدة خطأ (ولو بسلامة نِيَّة)، لوجد نفسه في مكان بعيد جدًّا عن مُبتَغَاه.
ويقولون أيضًا إن البرية في ذاتها ليست طريقًا واحدًا؛ بل طريق مليء بالمُفتَرَقات، وهذا سبب صعوبتها وإثارتها في الوقت ذاته. والمُفتَرَقات يمكن تعريفها على أنها الأَفرُع التي تتفرع من طريق الإنسان والتي يستلزم فيها اتخاذ قرار حاسم لمتابعة المسير؛ إما يمينًا أو يسارًا، إما مسيرًا أو ثباتًا.
والطبيعي أن هذه المفترقات لا تظهر في بداية حياة الإنسان (أقصد طفولته)، لأنه وقتها يسير في طريق لا فرع له، اختاره أبواه، لا يعبأ بأية مسؤوليات أو احتياجات. وما أن يكبر الطفل حتى يبدأ طريقه في التشعب رغمًا عنه، وتظهر المُفتَرَقات رويدًا رويدًا؛ ففي الإعدادي مُفتَرَقات الصداقة (زميل أو أنتيم!)، وفي الثانوي مُفتَرَقات الدراسة (علمي أو أدبي، أحياء أو كيمياء)، وفي الجامعة مُفتَرَقات الحياة الأكاديمية (مُعيد قسم أو مُعيد سنة!)، وبعد التخرج مُفتَرَقات العمل (حكومي أو خاص!)، تليها مُفتَرَقات الهجرة (AUS أو USA أو NOTHING)، قبل أن تُلِح مُفتَرَقات الزواج (سـ أو مـ أو...!!).
وهنا لا يكفي الإنسان لوحة أو “يافطة” ترشده في أي الطُرُق يسير، أو حتى حَدس يتوقع به القادم له؛ لأن كل مُفتَرَق من المُفتَرَقات يعلن على أنه وحده الصحيح والباقي ضلال مُبين. وهذا قد يُغرِقه في بوتقة حيرته قد توصله إلى “بالوعة اليأس”، إلا لو همس لأعلى قائلاً: يا هادي!
يا هادي والمرجعيات
بمجرد أن يطلب الإنسان خالقه كـ“الهادي”، فإنه من فرط حبه وصلاحه يتدخل على الفور، بل العجيب أنه يمتلك مرجعية رائعة تجعله يستخدم حق التدخل “الفيتو الإلهي” لهداية أي إنسان تائه وحائر في مُفتَرَقات طرقه حتى ولو لم يطلبه.
وهذه المرجعية ترتكز على أمرين: أولهما أن الرب يعرف الإنسان: «لأنه يعرف جِبْلَتنا، يذكر أننا تراب نحن» (مزمور103: 14)، والأمر الثاني أن الرب يعرف أن الإنسان كائن قابل للتوهان (مزمور56: 8)!! وأنه أبعد ما يكون عن هداية نفسه، كما أعلنها إرميا: «ليس للإنسان طريقه ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته» (إرميا10: 23)، وأكَّدَها سليمان: «قلب الإنسان يفكر في طريقه والرب يهدي خطوته» (أمثال16: 9). وعلى أساس هذه المرجعية المزدوجة لا مَفَر من تدخل الرب “الهادي”.
وتتنوع التدخلات من حيث الطريقة والموضوع. بالنسبة للموضوع فهو يهدي في الزواج: «هداني الرب إلى بيت إخوة سيدي» (تكوين24: 27)، ويهدي في الخدمة: «والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدي طريقنا إليكم» (1تسالونيكي3: 11)، ويهدي في السكن: «وهداهم طريقًا مستقيمًا ليذهبوا إلى مدينة سكن» (مزمور107: 7).
وبالنسبة للطريقة فمَرَّة يهدي بيديه: «وبمهارة يديه هداهم» (مزمور78: 72)، ومَرَّة يهدي بحقه في كتابه: «نورك وحقك هما يهديانني» (مزمور43: 3)، وإن استدعى الأمر ينزل هو بنفسه (كما فعلها مع شعبه القديم) فقد كان «يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق» (خروج13: 21).
فما أروعها مرجعية تجعل “الهادي” يتدخل في حياتنا باستمرار ويهدينا إلى سبل البر «من أجل اسمه» (مزمور23: 3)، بالطريقة التي يختارها، والموضوع الذي يصطفيه. فعلينا أن ندعوه فرحين وفخورين: يا هادي!
يا هادي والمستقيمات
نأتي أخيرًا إلى مشكلة قد تظهر أمام “الهادي” وهو يمارس عمله معنا؛ مشكلة تُسَمَّى: “المستقيمات” تحدث عندما ندَّعي أننا نعرف أكثر منه، وأن طريقنا واضح ومستقيم أمامنا، وأنه لاحاجة لنا لمن يهدينا فيه. وهنا تتم فينا الكلمات المكررة مرتين: «توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت» (أمثال14: 12؛ 16: 25)، وهذه كارثة حقيقية!
وهنا أيضًا لا يتركنا “الهادي” لأنفسنا، بل يصنع معنا أمرًا عجيبًا لحل هذه المشكلة العويصة، تمامًا مثلما صنع مع شعبه القديم بمجرد خروجهم من مصر، فيقول الكتاب: «وكان أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذ رأوا حربًا ويرجعوا إلى مصر فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف» (خروج13: 18)!!
ومن الأعداد السابقة (أرجوك أعد قراءتها في 30 ثانية) نفهم أنه عندما يرى “الهادي” أن الإنسان بنظرته المحدودة قد يختار مُفتَرَقًا ويرفض الآخر، لمجرد أنه يبدو مُستَقِيمًا أو قريبًا، فالأمر يستلزم تدخل “الهادي” ليس بالهداية ولكن بعدم الهداية: «لم يهدهم»!! ليس لأنه لا يحب شعبه أو يتلذذ بتيهانهم، لكن لأنه الإله الحكيم الذي يرى الطريق من نهايته قبل بدايته، ويعرف الخطر القادم من بعيد قبل أن يأتي، ويدرك جيدًا مدى استعداد شعبه ونضجه لمواجهته.
لذا فلا ضرر إذا سمح “الهادي” بعدم الهداية السريعة لنا (تأخر سن الزواج، تأخر الحصول على عمل، تأخر شفاء مرض)، لأنه رائع حين يأمر فيهدي سريعًا، ورائع أيضًا حين يدير وجهنا نحو البرية ولا يهدي سريعًا، وفي الحالتين نحن محظوظون بهذا “الهادي”.
عزيزي القارئ، يقينًا أنك شاب، ويقينًا أمامك عشرات المُفتَرَقات، ويقينًا مُضاعَفًا أنك تحتاج إلى “الهادي” فيها. صَدِّقني المشكلة ليست في الطريق أو وعورته أو تشابك تَفَرُّعاته أوتشابهها، لكن المشكلة، بل والكارثة، أن تسير في طريقك (مهما يبدو سهلاً أو مستقيمًا) دون أن ينطقها فمك بعوَز قائلاً: يا هادي!
إزاي ماطلبش هدايتك، وأمشي في طريقي الحاير
واليُفَط حواليَّ بتزغللني، وكلها عليَّ بتشاور
مين عارف طريقي بنهايته قبل بدايته
ومين كاشف قلبي الجوّاني وغايته
ومين يحفظ خطواتي يتوهوا بعيد ويشتوا
تعالَ اتدخل في حياتي، بأي طريقة يا قادر!
واقنعني إن دورك تهدي، ودوري أقولك: حاضر!