سمعتها من فتاة واقفة أمام “نافذة” للإعلان وهي “نافذة” بالموضة والألوان، تسرع وتيرتها وتزداد حيرتها عندما ينظر شريكها لساعتها!  بعد حيرة وأموال كثيرة تسأل خطيبها: “تفتكر الأكاجوه أحسن ولا السيمون؟!”  فيجيب بابتسامة: “الله أعلم!”

سمعتها من مجتمع “الفتاوي” الجالس على “القهاوي”، يتبادلون “الرغي” والكلام عن الفضائيات والأقلام، ثقافتهم منقولة وأقوالهم موتورة (مِن التواتر)، ينهون جلستهم بسؤال وحيد وجواب فريد: هي البلد رايحة فين؟!  فيجيبون جميعًا: “الله أعلم!”

“الله أعلم” والإجابة!

تعوَّد العقل البشري عامة، والمصري خاصة، أن “يُفتي” ويجيب على أي سؤال يخصّ غيره، وفي نفس الوقت يتباطأ عن إجابة الأسئلة المصيرية التي تخصه!!  فقد تسأل عَالِمًا مَهوبًا: لماذا أنت موجود على الأرض؟  فيجيبك بضحك: “الله أعلم”.  أو تسأل شابًّا محبوبًا: أين يوجد الله في حياتك؟  فيجيبك باستهتار: “الله أعلم”.  أو حتى شيخًا كهولاً: أين ستقضي أبديتك التي قد تبدأ بعد ساعات؟  فيجيبك بعدم اكتراث: “الله أعلم”!!

ورغم أنها إجابة صحيحة تفيد معرفة الله غير المحدودة، وإيقانًا بأنه وحده العليم (راجع “يا فَتَّاح يا عليم” من نفس السلسلة)، لكن قد يتخذ الكثيرون من هذه الإجابة فرصة لإراحة عقولهم وإلغائها، و“حِجة” للهروب من مجال البحث عن الحق والحياة.

تمامًا مثلما فعل رؤساء الكهنة والشيوخ، عندما سألوا المسيح: «بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا؟  وَمَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ؟»، ورَدَّ عليهم المسيح بسؤال له نفس إجابة سؤالهم: «مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مِنْ أَيْنَ كَانَتْ؟  مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟  ففَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنْ قُلْنَا: مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ لَنَا: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟  وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ نَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ لأَنَّ يُوحَنَّا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِثْلُ نَبِيٍّ.  فَأَجَابُوا يَسُوعَ: “لاَ نَعْلَمُ!”» (متى21: 23‑27).

عزيزي القارئ، أخشى أن تكون مثل هؤلاء، الذين يسألون ويفكرون ويتناقشون، بل ويعرفون الإجابة الصحيحة (السماء أو النار)، وفي النهاية يتركون مكان الإجابة فارغًا غير محسوم!!  فأنت أدرى بالأسئلة المصيرية التي لا يزال يسألك بها الرب، والتي اختصك بها بطول المجلة وعرضها.  فلا وقت للمراوغة!  هَيَّا، احسم إجاباتك معه ولا تهرب منه بقولك أن “الله أعلم!”


“الله أعلم” والاحتياج!

الآن، إن كنتَ قد حسمتَ إجاباتك وتقابلت مع المسيح شخصيًّا، فإليك هذا الأمر المُعَزِّي: إن المسيح اهتم بأمر آخر قد يؤرقك ويُتعبك اسمه: الاحتياج؛ فهو يعلم أن هَمَّ البشر الأول هو كيفية تسديد احتياجاتهم اليومية، وضمان احتياجاتهم “الغَدِّيَّة” (من الغد)!  لذلك فليس عجيبًا أن له رسالة مُطَمئنة بشأن الاحتياج، لكن العجيب والمدهش أن الرسالة عنوانها أيضًا: “الله أعلم!”

فالمسيح لم يَعِد المؤمنين بحياة بلا احتياج ولا أعواز، ولم يُمَنِّيهم بالمسيحية المُرَفَّهة ذات الخمس نجوم، لكنه استخدم منطق الإقناع في توضيح حقيقية واحدة كافية أن «أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها» (متى6: 32).  فإن كان مَن يخترع آلة أو جهازًا هو الأقدر على صيانته وتوفير “لوازمه” و“أكسسواراته”، فكيف لله المُحِب، الذي صمَّم وخلق الإنسان، أن يجهل أبعاد احتياج إنسانه؟!

حاشا!  فهو أول مَن نَبَّه آدم لاحتياجه للزواج: «وقال الرب الإله: ليس جيدًا أن يكون آدم وحده فأصنع له مُعِينًا نظيره» (تكوين2: 18)، وأول مَن نَبَّه موسى لاحتياجه للصديق والرفيق الذي يسانده: «ألَيْسَ هَارُونُ اللاوِيُّ أخَاكَ؟  أنا أعْلَمُ...  هَا هُوَ خَارِجٌ لاسْتِقْبَالِكَ.  فَحِينَمَا يَرَاكَ يَفْرَحُ بِقَلْبِهِ» (خروج4: 14)، وهو الذي نَبَّه إيليا لاحتياجه للطعام: «وَقَالَ: قُمْ وَكُلْ لأَنَّ الْمَسَافَةَ كَثِيرَةٌ عَلَيْكَ» (1ملوك19: 7)، وغيرها الكثير من الأمثلة التي تصب في اتجاه واحد أن “الله أعلم” بالاحتياج!


“الله أعلم” وكلمة السر!

لكن قد يتساءل قارئ ذكي مثلك: ماذا استفدت أنا من عِلم الله باحتياجي دون تسديده؟  وهل سيتدخل الله، أم سيكتفي بمجرد علمه باحتياجي؟!  وللإجابة البسيطة والأخيرة، علينا أن نراجع مشهدين، الأول “كتابي” في الماضي، والثاني “مكتبي” في الحاضر!

بالنسبة للمشهد الكتابي هو ما حدث في مصر، عندما قرر الله أن يُخَلِّص شعبه من ذُل وعبودية المصريين فنقرأ: «وتَنَهَّدَ بَنُو إسْرَائِيلَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَصَرَخُوا فَصَعِدَ صُرَاخُهُمْ إلى اللهِ مِنْ أجْلِ الْعُبُودِيَّةِ، فَسَمِعَ اللهُ أنِينَهُمْ فَتَذَكَّرَ اللهُ مِيثَاقَهُ...  وَنَظَرَ اللهُ بَنِي إسْرَائِيلَ وَعَلِمَ اللهُ» (خروج2: 23‑24).  فهنا لم يكتفِ الله بمجرد “عِلمه” باحتياج شعبه للخلاص من الذل والاضطهاد، فهذا الأمر لم يكن خافيًا عليه أصلاً، ولكن “علمه” كان بمثابة كلمة السر (أو الـ password)، التي أدخلها الرب ليُعلن فيها عن بداية تدخله الرهيب لتسديد احتياج شعبه.  فعِلم الله له قدرة، وقدرته مُنسجمة مع علمه، فالله أقدر و“الله أعلم!”

أما المشهد المكتبي فهو يحدث يوميًّا، عندما يتلقى الموظف أمرًا إداريًّا من مديره، فيكتب تحت الأمر عبارة: “عُلم ويُنَفَّذ” ويُوَقِّع بنفسه تحتها، فإن كان بالنسبة للمدير مجرد “عِلم” الموظف بالأمر يعني تنفيذه وبسرعة، فماذا عن “مدير الكون”؟!  هل يكتفي بعِلمه لاحتياجات أحبائه دون تدخله لتسديدها؟!  حاشا، فعِلم الله ينسجم تمامًا مع محبته ورحمته، فالله أرحم و“الله أعلم!”

عزيزي القارئ المحتاج، مثلي، يقينًا أن لديك احتياجًا شخصيًا لم يتم تسديده (مال، زواج، نجاح، حل لمشكلة)، ويقينًا أن هذا الاحتياج يشغل مساحة كبيرة من تفكيرك (لماذا...؟  متى...؟  كيف...؟  هل...؟)، ويقينًا مُضَاعَفًا أن إبليس يستخدم احتياجك للتشكيك في صلاح الله وأمانته معك.  لكن ثِق في قدرة إلهك الذي يسدد ويملأ كل احتياجك في حينه (فيلبي4: 19)!  وثِق في حكمته التي تختار التوقيت والطريقة المناسبة لتسديده!  وثِق في عِلمه باحتياجك أكثر جدًّا منك أنت، وكل ما عليك أن تُذَكِّر كيانك وتُنعِش إيمانك في صباح كل يوم يُلِح عليه احتياجك بكلمة السر التي أعلنها لك إلهك؛ والتي كنا نتأمل فيها أن: “الله أعلم!”

مشغول فكري بِبُكرة، يا ترى إيه شكله؟  وإيه مَجَايبه؟

ومنين أسدد احتياج يومي، أو أهَدِّي إلحاحه ومطالبه؟

مش إنت وَصِّتني إني عمري مانشغل وأهتم؟

وأقنعتني إن بُكرة بتاعي في إيديك مِتلَم؟

فادِّيني تكون كلمة سِرِّي: “الله أعلم!”

فأسَلِّمك يومي وبُكرة من كل حدوده وجوانبه!

وأستَنَّى تدخل إيدك لصالح واحد محتاج مِن حبايبه!