أقطُن مسكنًا قريبًا من المطار؛ بمعنى أنه كل بضعة دقائق أسمع صوت ضجيج في الجو، سواء أثناء النهار أو حتى في منتصف الليل. وبالطبع يصل الصوت إلى أعلاه عقب إقلاع الطائرة أو قُبيل هبوطها. فالطائرات القادمة كلما اقتربت صوب أرض المطار، ارتفع صوت ضجيج محركاتها ثم يختفي الصوت تدريجيًا، أما الطائرات المُغادِرة يكون صوتها مرتفعًا جدًّا فور إقلاعها ثم يخفت الصوت تدريجيًّا كلما ارتفعت عن سطح الأرض.
لكن في الحقيقة لم يكن يزعجني صوت الطائرات الذي كان يضجّ في الجو رغم أنه أحيانًا يكون كالرعد في قوته، بل كان - وما زال - يؤرقني صوت من نوع آخر على الأرض، يعقب صوت الطائرات مباشرة، وهو صوت أجهزة إنذار السيارات التي تطلق نوافيرها المتعددة الأصوات فور استشعارها لضجيج الطائرات، فتزعجنا هي الأخرى بضجيجها الذي يستغرق وقتًا يختلف من سيارة لأخرى. وبقدر تنوعها يكون الاختلاف، فبعضها يشبه زغاريد الزفاف والبعض مثل صفارة الإسعاف.
وهكذا الحال طوال الليل والنهار، كأنها تستقبل القادمين وتُوَدِّع المغادرين، رغم أنها لا تميِّز مَن هم القادمون ولا تدري وجهة المغادرين. وما أدراك بأصواتها في الليل خصوصًا عندما يدوي الصوت عاليًا يقطع سكون الليل وهدوءه الشديد، ويوقظني من نوم هادئ سعيد، وقبل أن يغلب عيني النعاس من جديد، يمر الوقت ويأتي بالمزيد، وهَلُمَّ جَرَّا!
في إحدى الليالي، ذكَّرتني تلك الخواطر بحقيقة تحدث كل يوم، كما أن أجواء بلاد العالم كلها تشهد عشرات الألوف من رحلات الطيران كل يوم ركاب البعض مغادرين أوطانهم والبعض عائدين إليها، هكذا يشهد عالمنا كل يوم كثيرًا من المواليد الوافدين إلى هذا الكوكب الذي نعيش عليه، وكثيرين أيضًا يرحلون عنه، وكل من الراحلين يذهب في تلك الرحلة الأخيرة إلى مقره الأبدي.
وفي كلتا المناسبتين تحدث ضجة وفقًا للمناسبة. ففي الولادة ضجيج الطرب والترحاب، بينما في حالات الوفاة ضجيج الندب والانتحاب، رغم أن ردود أفعال البشر أحيانًا تشبه أجهزة إنذار السيارات، فيطلقون نفيرهم ويدقون طبولهم دون أن يعرفوا مستقبل الوافدين ولا يدرون أين ذهب الراحلون؟!
فمثلاً عند موت الأحباء والمُقَرَّبين تعلو أصوات الصراخ والبكاء والأنين، قد يدوم الحزن أيامًا أو شهورًا أو ربما سنين! لكن مع مرور الوقت ينخفض صوت ضجيج الندب والنحيب وتجف الدموع وربما لا يذكر الراحل سوى القريب له والحبيب، دون أن يشغل أحد تفكيره كثيرًا: أين ذهب الراحل؟!
عزيزي لقارئ، هل تعلم أنك يومًا قد تكون ضمن هؤلاء الراحلين؟ ولا تدري متى تطير إلى مقرك الأبدي؟ وسيعقب رحيلك ضجيج على الأرض قد يدوم إلى حين، حيث يضج الأحباء والمُقَرَّبين بِلَوْعَةٍ من الحزن والأنين قد يستغرق أيامًا، شهورًا أو حتى سنين. لكن يبقى السؤال الأهم والأخطر: هل وجهتك الأبدية ستكون حيث أفراح المجد في دار الأمان، أم حيث البكاء وصرير الأسنان؟؟!!
يقول الكتاب المقدس: «وُضع للناس أن يموتوا مرة، ثم بعد ذلك الدينونة»، حيث مصير كل الرافضين لنعمة الله ورحمته المُقَدَّمة مجانًا من خلال قبول عمل المسيح الفدائي بموته كفارة عن الخطايا فوق الصليب، الذي «له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا» (أعمال10: 43).
أما كل مَن يستهين بهذا الطريق الوحيد للخلاص، فينتظره مصير تعس في الجحيم الأبدي، حتى لو تَوَقَّف بكاء الأحباء عقب فراقه، فلن يَكُف هو هناك عن الصراخ والندم إلى أبد الآبدين.
أدعوك أيها القارئ الكريم أن تُسرِع إلى المُخَلِّص العظيم قبل فوات الأوان!
اصرخ الآن طالبًا رحمته وغفرانه قبل أن تصرخ هناك ولا مُجِيب!
إن آمنتَ بكل قلبك؛ فلن تخشى من وقت الرحيل، بل سيكون أسعد أوقاتك إذ تعود إلى الوطن السعيد، حيث لا صراخ أو ضجيج بل أفراح أبدية ومجد أكيد.
«وكما وُضِع للناس أن يموتوا مَرَّة ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضًا بعدما قُدِّم مَرَّة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» (عبرانيين9: 27‑28).