عايزني انساه ... امح كتابه وسماه!
كانت فترة الثورة الفرنسية (1789-1799) فترة اتُخذت فيها إجراءات صارمة لمحو كل أثر للمسيحية من البلاد. وتُشير التقارير عن تلك الفترة كيف أُزيلت كل علامة تدل على المسيحية من الكنائس والمدافن، حتى أن الكتاب المقدس حُظر بيعه.
وذات مرة قِيل لرجل مسن: “كل علامة تذكِّرنا بالله يجب إزالتها”. إلا أنه كان حاضر البديهة، فَرَدَّ على الفور بابتسامة ساخرة: “حسنًا، أزيلوا نجوم السماء إذا استطعتم”. هيهات! لقد بقيت النجوم ترصِّع قبة السماء علامات مرئية على عظمة الله.
ويوم قرأت هذه القصة، تذكَّرت مزمور19 الذي نجد فيه ثلاث كُتُب عظيمة تُقدّم ثلاث شهادات لله «وَالْخَيْطُ الْمَثْلُوثُ لاَ يَنْقَطِعُ سَرِيعًا» (جامعة4: 12). وهي:
أولاً: كتاب الطبيعة أو الخليقة (ع1-6).
ثانيًا: كتاب الكلمة أو الأسفار المقدسة (ع7-11).
ثالثًا: كتاب الضمير الموجود في كل إنسان (ع12-14).
ولقد عبَّر أحدهم عن هذه الأقسام الثلاثة بطريقة أخرى، فقال:
1- رسالة السَّماوات، وموضوع هذا الجزء هو: عظمة الله الخالق (ع1-6).
2- رسالة الأسفار المقدسة، وموضوع هذا الجزء هو: يهوه إله العهد وقوة كلمته (ع7-11).
3- تأثير شهادة كتاب الخليقة والأسفار المقدسة على النفس. إذ نجد في الثلاثة أعداد الأخيرة، الإحساس بالخطية والذنب، والصلاة إلى الفادي والولي كنتيجة للشهادتين السابقتين (ع12-14).
ودعونا نتأمل في شهادة الخليقة ورسالة السَّماوات، كما وردت في مزمور19: 1-6: «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (ع1). والسَّماوات هنا يُقصَد بها السَّماوات المنظورة التي تشهد لمجد الله ولقوَّته العظيمة. إنها تُعلّن باستمرار وجوده وحكمته وقوته وصلاحه وعظمته. ففي كل الخليقة نجد تصميمًا بديعًا وترتيبًا ونظامًا دقيقًا يُعلن وجود مُصمِّم عظيم وخالق لكل شيء.
«يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْمًا» (ع2). وهذا يعني أن كل يوم يُكمّل حديث اليوم السابق، ويبتدئ من حيث انتهى. وكل ليل يُسلّم تلاوة القصة العجيبة لما بعده. إنها قصة مُستمرة ومُتجدِّدة يتحدث بها كل يوم وكل ليل عن مجد وعظمة الله الخالق. فكأنه نهر من الكلمات يتدفق باستمرار مُعبِّرًا عن عظمة الله ويفيض بمدح الخالق. إن شهادة النهار والليل المجيدة تُذيع من مكانها العالي معرفة الله، وكأنها تعمل كمحطة إذاعة قوية، تُعلِن العظمة التي بلا استقصاء، والقدرة التي تفوق العقل، والحكمة التي تُذهَل أمامها عقولنا.
«لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ» (ع3)، وفي ترجمة داربي “لا قول ولا كلام، ومع ذلك يُسمع صوتهم”. فبدون قول أو كلام، تصل رسالة الأجرام السَّماوية المرئية دائمًا إلى الأسماع كما إلى العين والقلب. وكما قال أحدهم: “الشمس والقمر والنجوم مُبشّرون مُتجولون ورُسل رحالة ليُثبتوا الإيمان بالله الخالق، كما أنهم قضاة ليحكموا على الذين لا يؤمنون بل هم منغمسون في عبادة الأصنام المتنوعة”.
فالأجرام السَّماوية تتحرك في صمت رزين، ومع ذلك فهي تذيع تعاليم ثمينة وإيجابية بلُغة واقعية. ونرى بعضًا من صوت السَّماوات في كلام الله لأيوب، فهو يتكلَّم عن “عُقْدَ الثُّرَيَّا”، وعن “رُبُطَ الْجَبَّارِ”، وعن خروج “الْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا”، وعن هداية “النَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ” (أيوب38: 31، 32). هذه النجوم والكواكب التي ذكرها الله لأيوب بأسمائها هي جزء صغير من الأجرام السَّماوية التي تُعلّن باستمرار مجد الله، والتي قال عنها إشعياء: «ارْفَعُوا إِلَى الْعَلاَءِ عُيُونَكُمْ وَانْظُرُوا، مَنْ خَلَقَ هَذِهِ؟ مَنِ الَّذِي يُخْرِجُ بِعَدَدٍ جُنْدَهَا، يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ؟ لِكَثْرَةِ الْقُوَّةِ وَكَوْنِهِ شَدِيدَ الْقُدْرَةِ لاَ يُفْقَدُ أَحَدٌ» (إشعياء40: 26).
«فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ» (ع4). أي أن هذه الأجرام السَّماوية تُعلن في صمتها أبلغ رسالة، وأعظم شهادة. وهذا ما يُعلنه الرسول في العهد الجديد «لأَنَّ أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ تُرَى مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِآلْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ» (رومية1: 19-21). حقًا إن شهادة الله في الخليقة مُعلَّنة في كل الأرض، من أدناها إلى أقصاها.
«جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا، وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ الْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ» (ع4، 5). ويختار المرنم الشمس باعتبارها الشاهد الأعظم لمجد الله، ويُصوّرها كملك جبار، صنع الله له حَجَلَة؛ أي غرفة مُزينة في السماء، وإشراق الشمس يُشبَّه بالعريس الخارج من غرفته، بكامل بهائه، رائع القوة والأناقة، ووجهه مليء بالفرحة والسعادة. ويُشبِّه المرنم حركة الشمس في مدارها، بالجبار الذي يجري مسرورًا في السباق في مداره.
«مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا» (ع6). وكم تُسبب أشعة الشمس المُشرقة من النشوة والنشاط والابتهاج في الإنسان وفي كل الخليقة، وهي تبعث في أرجاء الأرض الضوء والدفء. فضوء الشمس وحرارتها يصلان إلى جميع أنحاء الكرة الأرضية على السواء.
وهذا هو وصف الشمس عندما يُنظَّر إليها من الأرض، بينما في الحقيقة نحن ندور حول محورنا وحول الشمس. ولكن ما نراه هو أن الشمس تُشرق وتغرب وكأنها تسافر عبر الأفق.
وعندما ينظر البشر إلى الشمس يدركون عظمة الذي خلقها، وجمال الذي أوجدها بكل حكمته وقوته وأمانته، إذ لا يختفي شيء من حرَّها.
وكلمة الشمس تَرِد بالمذكَّر في اللغة العبرية. والشمس كمصدر للنور والحياة لكل الخليقة، وكمركز للمجموعة الشمسية، تُعتبر رمزًا للرب يسوع المسيح؛ فهو بجانب أنه الخالق لكل الكون، فهو مركز كل المشورات الإلهية، وهو رأس الخليقة الجديدة، وهو مصدر النور، ومُعطي الحياة الأبدية. وهو الذي يقول عنه النبي ملاخي أنه «شَمْسُ الْبِرِّ» الذي “سَيُشْرِقُ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهِ”؛ سَيُشرق لهذه الأرض الملعونة بسبب الخطية، وذلك عندما يأتي ليملك (ملاخي4: 2). وهو أيضًا نور المدينة السَّماوية أورشليم المقدسة، إذ يُقال عنها أن «الْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْخَرُوفُ سِرَاجُهَا» (رؤ21: 23).
ما أجمل أن نرى مجد الرب يسوع المسيح ابن الله مشهودًا له في خليقته!
يا سَيِّدي لمَّا أرَى نُجومَكْ وكلَّ ما يَدورُ في الأفْلاكْ
أسْمَعُ صوْتَ الرَّعدِ في غُيومِكْ وكلَّها قد صَنَعَتْ يداكْ
نَفْسي تُغَنِّي يا مُخَلِّصي ما أعْظَمَكْ ما أعْظَمَكْ