عندما كنت في “جوبا”، عاصمة جمهورية جنوب السودان، في يناير الماضي، وأنا جالس مع بعض المؤمنين هناك، حدث أن النور أنطفأ وصارت ظلمة. وأثناء حديثنا معًا، لاحظت أضواءً تضيء في الأرض ثم تختفي، وتتحرك هذه الأضواء من مكان لآخر. ثم شاهدت هذه الأضواء في الهواء، ثم في سقف المظلة التي كنت جالسًا أسفلها. فتسائلت متعجبًا عن سر هذه الأنوار المتحركة والتي تعطي منظرًا عجيبًا وبديعًا، فأجابني رفقائي بأنها حشرة صغيرة لا يزيد طولها عن سنتيمتر، وهي غير مؤذية ومسالمة، وتسمى بلغة قبيلة “الدينكا” “آبا تيين Aba Thein ” ومعناها “أتى الليل”؛ أي عند ظهور هذه الأنوار من خلال هذه الحشرة فهي تعلن أن النهار قد مضي والليل قد أتى.
شكرنا الرب على إبداعه في مخلوقاته، وهتفنا قائلين «ما أعظم أعمالك يا رب، كلها بحكمة صنعت. ملآنة الأرض من غناك» (مزمور104: 24). وتذكَّرنا أن النهار كان مرتبطًا بفترة وجود المسيح على الأرض، فهو الذي قال: «أنا هو نور العالم» (يوحنا8: 12)، ولكن بعد أن أكمل المسيح العمل بموته على الصليب وصعد إلى السماء، أختفى النور الحقيقي وأتى الليل.
ولأن الليل مظلم، والظلمة كئيبة ومفزعة، فالأمر يحتاج إلى أنوار تضيء وتتحرك من مكان إلى آخر لتعطي البهجة والسرور. وهذا ما عمله الرب يسوع إذ جعل المؤمنين على الأرض أنوارًا، فلقد قال لتلاميذه: «أنتم نور العالم» (متى5: 14)، فهم انعكاس لنوره مثلما يعكس القمر نور الشمس ليلاً. وهم مسؤولون عن الإنارة: «في وسط جيل معوج وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوار في العالم» (فيلبي2: 15)، أي لا بد أن يظهر المسيح بصفاته الجميلة من قداسة وطهارة، وداعة وتواضع، محبة وحنان؛ لقد صارت حياة المسيح في المؤمن لذلك هو نور. وعندما قال الرب: «فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات» (متى5: 16)، كان يقصد أن هدف الأعمال الحسنة التي نعملها ليس أن يمدحنا الناس بل أن يتمجد الآب من خلالنا.
صفات النور
1. النور حلو: هذا ما قاله سليمان الحكيم في جامعة11: 7 والمؤمن الحقيقي صار حلوًا في المسيح يسوع، ويجب على المؤمن أن يُظهر صفات المسيح الحلوة للآخرين.
2. النور يكشف: ويظهر حقيقة الأشياء، فكما كان الرب يسوع هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، فيكشف فساد الإنسان لأنه هو القدوس؛ هكذا المؤمن، بحياة القداسة والسلوك المنضبط، يكشف الفساد والشر الذي من حوله.
3. النور يوضع في مكانٍ عالٍ: رمز السمو والرفعة عن دنايا العالم. قال الرب يسوع أن النور يجب أن يوضع على المنارة ليضيء لجميع الذين في البيت، وأن المدينة الموضوعة على الجبل لا تخفى. ليعطنا الرب أن نعيش حياة الرفعة الروحية والسمو الأدبي فنحتقر كل مغريات العالم، فالنفس الشبعانة تدوس العسل (أمثال27: 7). وأيضًا النور عندما يوضع في مكان عالٍ فإنه يُرى للكل ومن على مسافات بعيدة، وهكذا المؤمن لا بد أن حياته تكون شاهدة للمسيح وكل من هم حوله يعرفون ذلك.
4. النور يضيء بدون صوت: لكن تأثيره واضح للكل. وهكذا المؤمن، وجوده مؤثر وواضح دون جلبة أو إزعاج أو صوت عالٍ، متمثلا بالرب يسوع المكتوب عنه: «لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع في الشوارع صوته» (متى12: 19).
5. النور منفصل عن الظلمة: فلا يمكن أن الاثنان يجتمعان معًا في مكان واحد. ومن البداية نجد أن الله فصل بين النور والظلمة (تكوين1: 4). والمؤمن نور في العالم بينما الشرير مظلم، والذي يجعل الإنسان مختلف هو الإيمان القلبي بالرب يسوع: «لأنكم كنتم قبلا ظلمة. وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور» (أفسس5: 8). وينبغي أن المؤمنين ينفصلوا عن الأشرار وأفعالهم، أبناء النور ينفصلون عن أبناء الظلمة.
6. النور يرشد: السفن التي تسير في الليل تحتاج إلى نور المنارة ليرشدها إلى مكان الميناء الآمن، وهذا هو عمل المؤمنين أن يرشدوا الخطاة التائهين في بحر الحياة المظلم إلى المسيح النور الحقيقي والمخلِّص الوحيد؛ فيجدوا الراحة الحقيقية والسعادة الأكيدة.
7. النور مبهج: الظلمة كئيبة وتعبِّر عن الحزن والجهل وكل ما هو مضاد لله، لكن النور مُبهج ويعبِّر عن الفرح والسرور وكل ما هو إلهي، لأن الله نور وليس فيه ظلمة البتة (1يوحنا1: 5). لذلك يجب أن نعيش حياة الفرح والابتهاج باستمرار؛ فنعلن عظمة الإله الذي ارتبطنا به. فالنور ليس فقط يلمع في الوعظ والخدمة، بل في الحياة العملية، لأن الحياة تتكلم بصوت أعلى من الكلام.
معطلات ظهور النور
1. المكيال: هو وعاء يستخدم في بيع الحبوب، ويتكلم عن العمل والتجارة ومشغوليات الحياة حتى ولو كانت قانونية، لكنها إذا أخذت حجمًا أكبر من حجمها فإنها تعطل النور الذي في المؤمن. انغمس لوط في سدوم فانطفأ نوره، وكذلك ديماس ترك الخدمة مع الرسول بولس إذ أحب العالم (2تيموثاوس4: 9). فالسراج الموقد لا يوضع تحت المكيال بل على المنارة (متى5: 15).
2. السرير: يتكلم عن الكسل والراحة والاسترخاء، الأمور التي تعطـــل ظهور النور، فالسراج المـوقـد لا يوضع تحت السرير (مرقس4: 21). مثل داود الذي رفض أن يذهب للحرب ونام على السرير فاختفى النور (2صموئيل11)، وكذلك أرخبس الذي تراخى في مجال الخدمة المكلف بها فقال بولس: «قولوا لأرخبس انظر إلى الخدمة التي قبلتها في الرب لكي تتممها» (كولوسي4: 17).
3. الإناء: يتكلم عن الاهتمام بإشباع وإمتاع الجسد، وقال الرب: وليس أحد يوقد سراجًا ويغطيه بإناء (لوقا8: 16)، مثل إسحاق الذي بسبب محبته للأكل كاد أن يعطي البركة لعيسو وليس ليعقوب (تكوين26).
أخي.. أختي.. كن منارة تضيء لمن حولك، اشهد عن الرب يسوع بحياتك النقية والمقدسة، ولا تجعل النور الذي فيك يختبئ بسبب العمل أو الكسل أو إشباع رغبات الجسد، بل لنفحص أنفسنا باستمرار ونمتحنها لأن السرج تحتاج دائمًا إلى التنقية لكي يكون النور واضحًا وجليًا.