قضى “لودفيج فان بيتهوفن” (1770-1872)، الموسيقيُّ الألمانيُّ الفذّ، مُعظَم سني بلوغه وهو يخشى الصَّمَم. وفي وسعك أن تتصوَّر كيف كان شعوره لما حصل ما كان يخشاه. ففي الثلاثينات مِن عمره، أخذ سمعه يتلاشى تدريجيًا، حتَّى لم يَعُد يستطيع فهمَ ما يُقال له إلاَّ بواسطة الكتابة.
ودخل “بيتهوفن” في ليل الصمم والحزن والوحدة الكئيب، فانسحب من الأوساط الفنية تدريجيًا، وامتنع عن العزف في الحفلات العامة، وابتعد عن الحياة الاجتماعية، وأمضى حياته بلا زواج. وبالرغم من اليأس الذي أصابه في أوقات عديدة، وكاد يصل به للانتحار، إلا أنه قاوم، ووجَّه جهده كله للإبداع الفني، حتى أنه قال يومًا: “يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت ناي لا أستطيع أنا سَماعِه، أو يسمع أحد غناء أحد الرعاة بينما أنا لا أسمع شيئًا، كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس، وكدت أضع حدًّا لحياتي اليائسة، إلا أن الموسيقى وحدها هي التي منعتني من ذلك”.
وما أدهش الجميع أنَّ “بيتهوفن”، بعدما فقد سمعه كليًّا، كتب بعض روائعه الخالدة. فإذا بات في عُزلةٍ أبعدته عن مشاغل العالم، تدفَّقت عليه الأنغام والألحان الجديدة بالسرعة التي بها استطاع قلمُه أن يكتب. وإذا بِلَيِلِ صَمَمِه يغدو بَرَكةً عظيمة!
وهكذا أيضًا أولاد الله: فغالبًا ما يجدون فرحًا جديدًا في ليل أحزانهم، ونعمةً غير متوقَّعة في زمن احتياجهم. وكثيرًا ما أحرزنا نصرة عجيبة في ظرف كنا فيه نخشى الهزيمة، وتغنينا بأعذب الأغاني في يوم شرير ألزمنا شره بالاستناد على الله وحده. وحينما يعزلنا الله عن أمور هذا العالم، يُمكننا أن نتوقَّع سماع سيمفونيَّات السماء على نحو أكمل. وحتى لو اكتنف الظلام كُلَّ ما حولنا، فبنعمة الله نجد أنه ما يزال في وسعنا أن نبتهج بإله خلاصنا. فلا داعي لليأس، لأنه هو يكون لنا «مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي الضِّيقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا» (مزمور46: 1). كما أن ناظم مزمور42 قال أيضًا: «بِالنَّهَارِ يُوصِي الرَّبُّ رَحْمَتَهُ، وَبِاللَّيْلِ تَسْبِيحُهُ عِنْدِي صَلاَةٌ لإِلَهِ حَيَاتِي» (مزمور42: 8).
وقال أيضًا المُرنِّم: «لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْلِ» (مزمور91: 5). وما هو هذا الخوف؟ قد يكون وقع أقدام أعداء تدب، أو أشباح شر مقبلة، أو رائحة نار اضطهاد على وشك أن تشُبّ، أو صرخة ألم من مرض مفاجئ، أو قبضة الموت تتسلل نحو حبيب أو صديق. إننا نعيش في عالم رئيسه الشيطان، ويعمل فيه الموت، والحزن معروف ومألوف في ربوعه. ونحن لا نستغرب البلوى، سواء حلت في الليل أو في وضح النهار. وهذا كله يجب أن لا نخشاه، لأنه مهما كان خوف الليل فإن للمؤمن أن لا يخشى.
ولماذا نخشى من خوف الليل؟! أَليس الله أبانا؟ أَليس الله معنا؟ نعم، ويبقى معنا كل ساعات الشدة؛ هو الساهر المُحبّ، والبصير القدير. هو حارسٌ لا ينام، وصديقٌ صدوق إلى المنتهى. لا يقع شيء إلا بإذنه، وأبواب الجحيم يُمسك هو بمصاريعها. وقد وعد صادقًا أنه يكون سور نار حول المؤمنين به. ومَن ذا الذي يجرؤ على أن يخترق مثل هذا السور؟
مِن شأن غير المؤمنين ومِن شيمتهم أن يخافوا لأن الله مِن فوق غاضب عليهم، وفي داخلهم ضمير مستذنَب، وجهنم مِن تحتهم فاتحة فاها في انتظارهم. أما نحن الذين نضع ثقتنا في الرب يسوع المسيح فقد تحرّرنا من هذه كلها بمقتضى رحمته الكثيرة. وحقيقة مباركة هي أننا لا يمكن أن نُوجد في ظروف يعجز المسيح عن مواجهتها. وسواء كنا أفرادًا أو جماعة، لا يمكن أن نُوجد في مكان أو زمان ولا يكون المسيح كفوًا له. فإذا نحن سمحنا للخوف أو للقلق أن يتسربا إلينا، فإننا بذلك نُهين إيماننا ونقود الآخرين إلى الشك في صحة اعترافنا المسيحي، ونُحزن الروح القدس بعدم ثقتنا، وقد تكون المخاوف كلها أشباحًا خيالية لا وجود لها. فلتسقط إذن كل هذه المخاوف؛ حقيقية كانت أم خيالية، لأن صفة واحدة من صفات الله أبينا لن تغيب أو يبطل عملها. لقد تعامل معنا بالنعمة ويظل مُنعِمًا على الدوام، ولن يغلق أحشاءه من نحونا. وقد تلفُّنا غمامة سوداء، ومع ذلك فإن الله لا يتغير ولا تحجبنا عنه سحب. ونحن قد نمر في خنادق مظلمة ولكننا غير مطروحين. بل إن فرصة تمجيد الله بالثقة فيه هي فرصة التجربة والشدة.
وأيضًا لا نخشى من خوف الليل لأن اللهُ صَانِعُنا هو «مُؤْتِي الأَغَانِيِّ فِي اللَّيْلِ» (أيوب35: 10). وإن نحن اصطبرنا حتى يُسمِعنا موسيقاه، فسيتبيَّن لنا أنه ما مِن اُغنيةٍ البتَّة أحلى من “أغاني نصف الليل” التي يؤتينا إيّاها. نعم، هو يؤتينا الأغاني في أحلك ساعات ليالي التجارب «وَنَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ اللهَ، وَالْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا» (أعمال16: 25). كان بولس وسيلا في السّجن في شدّة الألم ولم يستطيعا النوم، لكنّهما كانا في سلام كامل لأنّ الله قوَّى إيمانهما، فكانا – في نصف الليل - يُصلِّيان ويُرنِّمان لله بصوت مرتفع حتى سمعهما كل المسجونين. فما أعجب سلام الله الكامل الذي يُنشئ فرحًا داخليًا مهما كانت قسوة الظروف المحيطة. ولا يستطيع أعداء المؤمن أن يحرموه من سلام الله حتى وإن كان في السجن.
عزيزي المؤمن: عندما تحوّل همومك إلى صلوات، يغمر الله نصف الليل بأروع الأغنيات، لتترنم من قلبك بنغمة عالية وصادقة:
يا مُؤتي الأغاني في ليلي وأحزاني
يا ضامن أماني يا يسوع راعيَّ
وقت الصعب ها رنم فيه فرحي دا قوة وليه أداريه
ولا إنسان ولا شيطان ينزع فرح أنت اللي عاطيه