نشتهر نحن المصريون بالكرم “الشفهي” الفائق، والتي يظهر في ثلاثة اتجاهات رئيسية، إما كلام التحيات (اتفضل.. تنورنا.. ما لسة بدري)، أو تقديم العزومات (الشاي على النار.. الأكل جاهز.. الساقع جاي)، وأخيرًا عروض تقديم الخدمات (تحت أمرك.. إنت تأمر.. بس كده.. ده يوم المنى.. أي خدمة)، وهنا سنركِّز على النوع الأخير، والكلمة الأخيرة منه “أي خدمة”.
“أي خدمة” والعَرض!
عندما يقول إنسان لأخيه الإنسان “أي خدمة”، فإنه في الواقع يعرض عليه عرضًا، قد يكون ماديًا (أموال)، أو معنويًا (مساعدة أو تدخل ما). وعلى الرغم من أن هذا العرض قد يكون مُحَمَّلاً بالمعاني الرائعة والمشاعر الرقيقة، إلا أنه من كثرة استخدام كلمة “أي خدمة” في مجتمعنا، فقد فقدت معناها وجدّيتها، وأصبحت مجرد عرض شفهي لا يتحول لفعل، وهي أشبه بـ“عزومة المراكبية” لمن يسير على الشاطئ دون جدية في عرضه، فينادي عليه بصوت عالي من وسط البحر “اتفضل” رغم أنه لا يزال في عرضه!!
تذكَّرت ملكًا ذُكر في العهد القديم، فارسي ذو شخصية قوية ورهبة مدوية (أستير4: 11)، قدَّم عرضًا للخدمة، لملكة رائعة ذات قيمة كبيرة، هي أستير، إذ قال أحشويرش - وهو في كامل قواه العقلية - «مَا هُوَ سُؤْلُكِ يَا أَسْتِيرُ الْمَلِكَةُ فَيُعْطَى لَكِ وَمَا هِيَ طِلْبَتُكِ؟ وَلَوْ إِلَى نِصْفِ الْمَمْلَكَةِ تُقْضي» (أستير7: 2). وكانت الخدمة التي تحتاجها أستير خلاص شعبها. ولاحظت أن الملك كان جادًا جدًا في عرضه؛ فنفَّذ طلب الملكة رغم التكلفة!! فلم يقدِّم مجرد عرضٍ خاوٍ للخدمة والعطاء المادي، ولكن نفَّذ عرضه بكل وعي وجدّية.
إننا كمؤمنين – للأسف – نفتقد لجدية أحشويرش؛ فنحن نعرض خدماتنا (المعنوية أو المادية) للناس، ولكننا لا ننفِّذها بجدّية، مع أننا الأولى بتقديم الخدمات؛ لأننا أتباع المسيح أعظم خادم طرق أبواب البشرية، ولأن طبيعتنا هي «ملح الأرض»، و«نور العالم» (متى5: 13، 14). وبالتالي فقد بقيت خدمتنا للناس مجرد عروض جوفاء، وظللنا غارقين في أنانيتنا المقنَّعة، ونخدم ذواتنا داخل جدراننا، فأصبحنا نقول للناس “أي خدمة” ولا نقدم لهم “أي خدمة”!!
“أي خدمة” والقلب
وهنا ننتقل لنقطة أخرى أخطر وأهم، وهي عروض خدماتنا لله نفسه!! فكثيرون يتساءلون مثلي: إن كانت الكنائس والاجتماعات مليئة بالخدام والخادمات، وجدول خدماتهم مملوء عن آخره ومُرضي لجميع الأذواق، وهم يعرضون خدماتهم على الله بصراحة في ترانيمهم (يا رب إنني لك أكرس الحياة... جهزنا علشان تستخدمنا...)، وفي صلواتهم (افتح لنا بابًا لخدمتك... أرسلنا حالاً لكرمك...)؛ فلماذا إذاً يتزايد عدد النفوس المكسورة؟ وتكثر بالعشرات العائلات المتعثِّرة؟ ويجلس مئات الشباب في كورتهم البعيدة ولا يجدون حضنًا واعيًا يستوعبهم؟!! ولماذا نبدو وكأننا نقدم “شيكات على بياض” لله، عنوانها “أي خدمة”، وعندما يأتي وقت دفع الدفعة الأولى منها، يبرز التراجع وتظهر الأعذار، ويبدأ كل واحد منا يتنصل من التزامه.
والحقيقة أنني أرى سببين لهذه الازدواجية المرعبة؛ السبب الأول - في رأيي - أننا اهتممنا كثيرًا بنوع وتوقيت ومكان الخدمة، ولم نهتم بقلبنا نحن أثناء الخدمة!! وتناسينا أن المسيح؛ الخادم الأعظم، لم يأتِ لنا بـ“لستة” من الخدمات الفارغة لنملأها، ولا بـ“كتالوج” به أحدث الطرق والوسائل المبتكرة للوصول للناس وملامسة احتياجاتهم، ولكنه جاء بالأهم والذي لم يأتِ به غيره؛ جاء بقلب الخادم!!
فأخبرنا المسيح أن قلب الخادم يجب أن يكون موحَّدًا ومخصَّصًا له، ولا يخدم أي شخص أو شيء سواه (متى6: 24). وأن من أراد خدمته عليه أولاً أن يتمم شروط تبعيته، «إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي»، وأن من يخدمه لا يجب أن ينتظر مكافأة معنوية أو مادية من أي إنسان «وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب» (يوحنا12: 26)، وأن من يخدمه عليه أن يضحي ببعض من حقوقه الطبيعية، ومن راحته لكي يرضي من يخدمه (لوقا17: 8).
فإن كان قلب الخادم موحَّدًا وملتزمًا وتابعًا ومضحيًا، فإن كل كلمة تخرج منه ستكون نافعة وبانية للآخرين، وأي تصرف سيفعله سيكون مثالاً وقدوة للكثيرين، حتى لو لم يصعد في حياته على منبر، لكنه سيكون امتلك قلب الخادم الحقيقي، وتتم فيه الكلمات «الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح» (لوقا6: 45). ويكون «مستعدًا لكل عمل صالح» (2تيموثاوس2: 21)، وساعتها سيخدم أقل خدمة، وأبسط خدمة، ولكنها لن تكون كـ“أي خدمة”!!
“أي خدمة” والفراغ!
السبب الثاني في هذه الازدواجية الرهيبة، أننا جميعًا نتزاحم حول خدمات نظنَّها جماهيرية وأفضل من غيرها، فيما نترك أمامنا فراغًا رهيبًا في مكان الخدمة الحقيقية التي يريدنا الرب فيها، وبالتالي فإننا نختار الخدمة المحبَّبة لنا، ولا نخدم “أي خدمة”!!
وهنا تبرز روعة المسيح كأعظم خادم، فهو لم يأتِ لينافس الكتبة والفريسين في مكانهم، لكن ذهب للفراغ الروحي والاجتماعي الرهيب، الذي لم يلتفت إليه أحد. فهل رأيت خادمًا يقتحم فراغ الخطاة النفسي (لوقا15: 1)، ويذهب للخطاة في أماكنهم، ويأكل معهم بلا إدانة ولا حواجز بينه وبينهم (متى9: 10-13)؟! وهل رأيت خادمًا يشارك الناس فرحتهم ويحضر أفراحهم، ولا يعتبره تضييعًا للوقت والجهد (يوحنا2: 1-10)؟! وهل سمعت عن خادم «جال يصنع خيرًا» (أعمال10: 38)، ليس ليجمع أتباعًا، فكثيرًا منهم رفضوه وطردوه، لكنه كان يريد فعلاً أن يخدم البشر، ولذلك فرغم قصر فترة خدمته على الأرض فلم تكن كـ“أي خدمة”!!
إذاً عزيزي القارئ المغتسل بالدم، إننا مدعوون لنكون خدَّامًا حقيقيين، وليس فقط لنقدِّم عروضًا للخدمة!! فعلى جدّيتنا أن تسبق كلام شفاهنا، وعلينا أن نهتم بقلبنا أمام الله أثناء الخدمة، أكثر من نوع وتوقيت ومكان الخدمة نفسها. وأخيرًا علينا أن نترك خدماتنا المفضلة، ونذهب حين يريدنا سيدنا؛ حيث الفراغ الرهيب في نفوس الناس، وحيث لا يستطيع أن يصل إليهم سوانا، ووقتها سيُخرج الله - مصدر الصلاح - كل عمل صالح فيه فائدة للناس، وكل كلمة تسعدهم وتبنيهم، وسيصنع منا خدامًا لائقين بمجده، ونعيش حياة الخدمة، ولكنها ليست “أي خدمة”!!
كتير باخدمك، وأنا مش باصص عليك،
ولا همي حالة قلبي
وعروضي ما فيها جدية،
وأديني بأرضيني وأخدمني وبأعبّي!!
أتاريك بتدوَّر على قلبي الخادم،
مش مجرد خدمة وخلاص
وعايزني أخدمك في مكانك،
وسط فراغ واحتياج الناس
وتديني قلبك أخدم بيه،
وتنشر بيه أجمل إحساس
جايلك باعترف بسيادتك وحقك،
قبل ما اخدمك يا ربي!!
وتكون خدمتي ليك بجد،
هي ترجمان حقيقي لحبي