كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية إلا عشر دقائق بعد منتصف الليل وأنا أجلس على رصيف المحطة منتظرًا القطار. أمسكت بكتاب أتصفحه لحين وصول القطار، الذي كان متأخرًا. وبعد دقائق سمعت صوت الإذاعة الداخلية للمحطة تعلن أن القطار القادم ليس هو الذي انتظره، ثم أعلن أن قطاري سيأتي وراءه مباشرة. عُدت للكتاب مرة أخرى مع صوت صافرة القطار الأول تُعلن اقترابه. وما أن قرأت بضعة كلمات، حتى سمعت صرخات ونداءات من بعض الشباب الواقفين بجواري إلى شخص ما. قمت لأعلم الأمر، فوجدت شابًا في أواخر العشرينات يرتدي ملابس مهلهلة ومتسخة جدًا، يسير بهدوء ولا مبالاة على قضبان السكة الحديد. لا يبالي بصرخات الشباب، ولا بصافرة القطار المتجه إليه. وقفت مذهولاً مما أراه، غير مصدِّق لما يحدث. وفجأة ظهر أربعة من الشباب في المشهد توجهوا بسرعة شديدة إلى ذلك الشاب غريب الأطوار، نزل أثنان منهم بجواره على قضبان السكة الحديد بينما الإثنان الآخران وقفا على الرصيف، ورفعوه معًا إلى الرصيف بينما هو ينظر إليهم بلا اكتراث. وفي لحظات كانوا جميعًا على الرصيف، ودخل القطار إلى المحطة دون حدوث مكروه. تنفس الجميع الصعداء بعد أن أطمأنوا.
لفت انتباهي أن ذلك الشاب يمسك بيده كيسًا صغيرًا به فتحة في أعلاه. وبعدما رفعه الشباب وتركوه على الرصيف ظل يتمشى بنفس الإسلوب الغريب، وهو يستنشق شيئًا ما من ذلك الكيس. وكان السؤال الذي يتردد في ذهني: تُرى ما الذي يحمله هذا الكيس؟ وجاءتني الإجابة من أحد العاملين بالمحطة، حينما رفع صوته محدثًا ذلك الشاب قائلاً له: “كل دا بسبب الكُلَّة اللي في إيدك ليل نهار”. والكُلَّة هي مادة لها تأثير مخدِّر، منتشرة في المناطق الشعبية نظرًا لقلة ثمنها وسهولة الحصول عليها، وهي ذائعة الانتشار بين أولاد الشوارع. إذًا فقد وضحت القصة الآن، إنه شاب يتعاطى المكيفات، لذلك فهو في حالة لا وعي ولا يدري ما يحدث حوله. وكان هذا تفسيرًا مقنعًا لحالة اللامبالاة والتيهان والنظرات الزائغة لذلك الشاب. أومأت برأسي حزنًا عليه، ثم أخذت الكتاب لأضعه في حقيبتي استعدادًا لوصول قطاري الذي أطلق صافرته معلنًا قدومه. وفجأة تعالت النداءات والصرخات مرة أخرى؛ لقد نزل ذلك الشاب على القضبان مرة ثانية قبيل وصول القطار مباشرة، وكان يسير بنفس اللامبالاة على قضبان السكة الحديد رغم صوت القطار، وصرخات الناس من الناحيتين. وكل ما يشغله هو ذلك الكيس الذي يمسك به بكلتا يديه. ومرة أخرى أسرع إليه شابان آخران أمسكاه بقوة ورفعاه للرصيف.
إخوتي الأحباء، لفت نظري في هذه القصة أمرين:
أولاً: موقف ذلك الشاب المسكين، الذي يشبه إلى حد كبير موقف الكثيرين في أيامنا؛ شباب في مقتبل العمر وفي زهرة أيامهم، إلا أنهم لا يبالون بشيء ولا يهتمون بحياتهم الأبدية، رغم الصرخات المدوية من حولهم، والتي تعلو وتزداد يومًا بعد يوم؛ محذِّرة من النهاية القاسية والأبدية الرهيبة التي تنتظرهم، ورغم الأحداث التي تُعلن أننا أصبحنا في آخر الأيام. إلا أنهم ينظرون في لا مبالاة بلا اكتراث لكل هذه الصرخات والنداءت. كل ما يشغل بالهم هو المتعة الوقتية للخطية والملذات التي لا تدوم. يُمسكون بكلتي يديهم في أمور فانية، وهم أعلم الناس بأنها لا تنفع ولا تُفيد. أسأل كثيرًا من هؤلاء عن الفائدة من كل ما يفعلونه، فأجدهم يتمتمون بخجل: لا فائدة. إذًا لماذا الاستمرار في حياة الضياع والشر أكثر من ذلك؟ هل هو الشعور باليأس من كثرة الخطايا والشرور التي فعلتها؟ أبشر! فرغم كل ما فعلته في ماضيك من شرور وخطايا تخجل من مجرد ذكرها، فإن المسيح ينتظرك وما زال باب التوبة مفتوحًا أمامك على مصراعيه. فقد وعد الرب أن من يُقبل إليه لا يُخرجه خارجًا (يوحنا6: 37). وأنه لم يأتِ ليدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة (متى9: 13).
فالمسيح جاء خصيصًا لأجلك، وما زال يقرع باب قلبك من خلال الضيق، ونداءات الخدام لك، ومن خلال الشعور الذي ينتابك من حين لآخر بأنك تحتاجه، والاحتياج الرهيب داخلك للتوبة والراحة بين يديه. يناديك من خلال ترنيمات وآيات حفظتها منذ سنوات طويلة، لكنها تتردد هذه الأيام داخل قلبك، وتهز أعماقك وربما بسببها تقضي أوقاتًا طويلة في البكاء وأنت لا تعلم كيف تخرج من هذا السجن المظلم وهذه القيود الشديدة.
ثق يا صديقي أنها نداءات الروح القدس لك، وأنها قرعات المسيح على قلبك، وهمسات الآب السماوي التي يناديك بها لأنك غالٍ على قلبه جدًا.
ثانيًا: موقف الشباب الأربعة لفت انتباهي جدًا، فهم خاطروا بحياتهم من أجل شخص لا يعرفونه، وليس ذلك فقط بل خاطروا لأجل شخص قد يكون بلا قيمة في نظر الكثيرين. لكنهم، تلقائيًا، أسرعوا نحوه وخاطروا بأنفسهم لإنقاذ حياته. والسؤال: تُرى هل أنت على استعداد للمخاطرة بحياتك في سبيل إنقاذ شخص على حافة الهاوية؟ أم أنها مجرد شعارات وكلمات نترنم بها في اجتماعاتنا فقط لتعطينا شحنة من الحماس ثم نكتفي؟
إننا للأسف ربما لا نفكر في الأمر برمته، ولا يشغل تفكيرنا، لأننا أصبحنا مشغولين بأنفسنا وبظروفنا وبالمستقبل. إننا نحتاج أن نُذكِّر أنفسنا بالكلمات المذكورة في كلمة الله: «لسنا عاملين حسنًا. هذا اليوم هو يوم بشارة ونحن ساكتون» (2ملوك7: 9). بل نحتاج لصوت الرب يزلزل أعماقنا كما فعل ببولس الرسول لما قال له: «لا تخف، بل تكلم ولا تسكت، لأني أنا معك» (أعمال18: 10). نحن في حاجة للشعور بخطورة الأمر، حتى لا نهدر الطاقة والجهد والإمكانيات في أمور فانية لا تعطي شبع ولا راحة، بل في خدمة مثمرة تُشبِع قلوبنا وتُفرِّح قلب إلهنا.
إنها دعوة لنا جميعًا أن ننفض عنا الكسل والهموم والمخاوف، وأن ننطلق بلا خوف ولا تردد للشهادة بالمسيح ربًّا ومخلِّصًا، ونُنقذ شبابًا ورجالاً ونساءً على حافة الهاوية، ونتذوق حلاوة الشهادة والثمر الحقيقي، ففرحة السماء بخاطئ واحد يتوب تملأ أيضًا قلب الكارز الذي يربح ذلك الخاطئ. ألا تشتاق لهذه الفرحة يا صديقي؟!