لأني خادم للإنجيل كان لهذه القصة الحقيقة التي قرأتها صدى عميق ما زال يدوي في أعماقي؛ لهذا يسعدني أن أشاركك بها عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة. ففي القرن الماضي عاش في الولايات المتحدة الأمريكية مبشِّر بالإنجيل ممتلئ حبًا للرب وغيره لربح النفوس للمسيح، وكان يركب حصانه ويسافر في رحلات طويلة تبلغ الاف الأميال. وفي أحد الأيام عاد لمنزله بعد طول غياب وكان “جاك”، ابنه الوحيد، ينتظره بفارغ الصبر ليرتمي بين أحضانه، وكان يشعر برغبه أن أبيه يلعب معه ويحكي له قصصًا مثيرة عن رحلاته. ولكن الخادم بمجرد عودته علم أن ابنه جاك لم يلتزم بواجباته، وأن درجاته في الدراسة تدهورت. ولأن الخادم كان مُجهَدًا من تعب الرحلة تحدث بعنف وغضب مع ابنه وعنَّفه وموبخًا بدلاً من الأحضان والقبلات. فحزن جاك جدًا، واختفى في لمح البصر. لاحظت ليزا أن اخاها جاك قد تأثر جدًا لأن أباه احتد عليه؛ فذهبت إلى أخيها وتحدثت معه على انفراد، لكنه أخبرها بأنه مصمِّم على ترك المنزل. حاولت ليزا بدموع أن تثنيه عن عزمه. قالت له: يكفي أن بابا يترك المنزل لشهور وليس لي أحد غيرك أنت وماما، فلمن تتركني؟ ولكن هذا لم يُثنِ جاك عن رأيه، وبالرغم من دموع أخته التي تحبه جدًا وهو أيضًا يحبها. وفي الليل، بينما الكل نيامًا، تسلل من المنزل وسط الظلام، وانطلق نحو الباب، فشعرت به اخته، وجرت وراءه تبكي ألا يتركها وحدها. أما هو فلم يُعطِ اهتمامًا لتوسلاتها ولا لدموعها، ثم عادت ليزا إلى حجرتها لتقضي الليل كله تبكي أخاها الذي ترك المنزل إذ صارت وحيدة في البيت.
علم الخادم وزوجته في الصباح بترك جاك للمنزل، فتحطم قلبيهما، ولاحظا على ليزا أيضًا حزنها الشديد. تغيرت ليزا تمامًا، فلم تعد تطيق الحديث مع والدها، وامتنعت عن العبادة الجماعية في الكنيسة وعن المذبح العائلي وحتى عن خلوتها الشخصية. مرت الأيام وليزا تعاني من المرارة، وفقدت كل علاقة طيبة بوالديها. وبعد حوالي أسبوعين طلبت منها والدتها أن تحضر لها بصلتين أو أكثر لكي تكمل طهي الطعام، فسألت ليزا أمها عن مكان البصل، فأخبرتها أنه في الدور العلوي وقالت لها أن تتحذر من أن السلم قديم. لم تنطق ليزا بكلمة ولا حتى بابتسامة فقد فارقتها منذ أسبوعين، وكان كل ما يشغلها متى يحين الوقت لتهرب من هذا البيت ولا ترى وجه أبيها أو وجه أمها. تسلقت ليزا السلم وإذ دخلت حجرة الخزين تفتش يمينًا وشمالاً عن البصل، سمعت صوت أقدام على السلم، فتساءلت في داخلها: ترى من يكون هذا غير والدي الذي لا أريد أن أرى وجهه ولا أن أتحدث معه. لكن ماذا تفعل أنه صاعد على السلم. تطلعت إلى المخزن، فوجدت بابًا قديمًا قد وُضع على الحائط، تسللت وراءه وجلست مختفية حتى يصعد والدها ويأخذ ما يريده من المخزن ثم ينزل، وعندئذ تنزل هي.
دخل الأب المخزن ولم يعلم أن ليزا مختفية وراء الباب القديم. لكنه ركع، وبدأ بدموع يصلي في مرارة، صارخًا: “يا إلهي ومخلصي، اعترف لك أنني مخطئ في حقك وفي حق نفسي وفي حق ابني جاك وليزا ابنتي، وزوجتي. وها أسبوعان قد مرّا وكل يوم بل كل دقيقة أصرخ إليك معترفًا لك بخطئي. نعم لقد تكلمتُ بغباوةٍ في عنفٍ، فحطمت نفسية ابني جاك، اغفر لي فإني مخطئ. ماذا أفعل؟ لن يستريح قلبي حتى يرجع ابنك جاك واعتذر له. ليزا هي ابنتك، ما تعانيه من كآبة هو بسببي، إنها خطيتي! لتلمس بروحك القدوس قلب جاك فيرجع إليك ويعود إلينا، ليعمل روحك القدوس في كل بيتنا...”
وكان الأب يصلي من أجل كل شخصٍ!! لم تحتمل ليزا صلاة أبيها ولا مرارة نفسه وتوبته الصادقة ودموعه. إنها لم تصدق أذنيها. لم تكن تدرك أن والدها يحب جاك ويود رجوعه ويشعر بندمٍ شديدٍ على ما صدر منه بهذه الصورة. وبدأت الدموع تسيل بغزارة من عيني ليزا وهي تقول في نفسها: “لقد أسأت فهم والدي، إنه يحبنا! كم كنت عنيفة معه كل هذه الأيام؟! محبته من نحوي لم تبرد! لم يُلمني بكلمة، بل ألقى كل اللوم على نفسه”. انطلقت ليزا من وراء الباب، وبقلب منكسرٍ وبدموع غزيرة، جرت نحو والدها وارتمت في حضنه وهي تقول: “آسفة يا أبي، لقد أسأت إليك”. أما هو فأخذها في حضنه وهو يقول: “أنا المخطئ يا بنتي. أخوكِ حتمًا سيعود!” وكانت دموعهما في مخزن البصل ليس بسبب رائحة البصل، لكن دموع الصدق والإخلاص والرغبة الحقيقية في رجوع جاك. وعندها قال الأب لليزا: “أخوكِ جاك حتمًا سيعود! ليس شيء غير مستطاع لدى الله! هو ابنه وابني!”
نزل الاثنان معًا، وإذ رأت الأم ابنتها في حضن أبيها وقد علت الابتسامة وجهيهما نسيت الأم الطعام والبصل، وأدركت أن يد الله صنعت عجائب في بيتها! وكم كانت دهشة الكل إذ عاد جاك إلى البيت، وصار هو أيضًا خادمًا للمسيح وتزوجت أخته فيما بعد مبشرًا بكلمة الله أيضًا.
عزيزي القارئ عزيزتي القارئة هل تلوم الأب والأم أم الأولاد؟ الأكيد أنه على كل خادم أن يهتم ببيته وأن لا يخلط في أولوياته بين الرب والخدمة؛ فالرب أولاً بالطبع، «وَقَالَ آخَرُ أَيْضًا: أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ وَلَكِنِ ائْذِنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ» (لوقا9: 61، 62)، لكن البيت ثانيًا وقبل الخدمة «يُدَبِّرُ بَيْتَهُ حَسَناً، لَهُ أَوْلاَدٌ فِي الْخُضُوعِ بِكُلِّ وَقَارٍ. وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟» (1تيموثاوس3: 5).
ولكن من الجهة الأخرى: هل عُدتَ للآب السماوي كما عاد جاك إلى أبيه الذي يحبه ويهمه مصلحته؟ هل تقول مع الابن الراجع: «كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ» (لوقا15: 17-19)؟ هل تزرف دموعًا حقيقية وليست من البصل، كتلك التي جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً وابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ (لوقا7: 37-50) فنالت أعظم ثلاث هدايا يمكن أن ينالها أي إنسان على الأرض: 1-غفران الخطايا: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ». 2-الخلاص: «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ!» 3-السلام: «اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ».
فهل تصلي بدموع معي:
صلاة: إلهي ومخلصي الرب يسوع، آتي إليك بتوبة ودموع، ومن كل قلبي أبتغي الرجوع، عن كل خرنوب وشر وجوع، ارحمني واروني من أعذب ينبوع. أمين