منذ الطفولة عَلَّمني أبي وأمي أن القَسَم (الحلفان) خطية؛ طبقًا لكلام الرب: «لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ...» (متى5: 34-37). وهكذا كثيرًا ما كنتُ أستخدم هذه العبارة: “أمام الله” ومرادفتها: “قدام ربنا”، بديلاً عن القَسَم. وكنتُ، ربما دون وعي كامل، أعني: أنا صادق فيما أقول كما لو أنني أنطق به أمام الله وليس أمام إنسان. وأعتقد أن لهذا المبدإ مرجعية كتابية؛ فقد قال الرسول بولس: «الَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ» (غلاطية1: 20).
لكن ماذا عن سائر مجالات الحياة؟ ماذا لو فعلنا كل شيء على أنه “أمام الله”؟ ماذا لو كانت أفعالنا وردود أفعالنا محكومة بهذا التوجُّه الدائم؛ أننا “أمام الله”؟
إن الشعور الدائم بحضور الرب، أو بالأحرى بوجودنا أمامه في كل حين، لا ينبغي أن يُنشئ فينا خوفًا منه بل رهبة له. إن الله بالنسبة لنا، نحن المؤمنين، ليس ضدًّا يريد أن يعاقبنا بل هو أبونا الذي يُحِبنا ويؤدبنا «لكي نشترك في قداسته» (عبرانيين12: 5-10). قال كاتب المزمور حين أدرك أنه لا يمكنه أن يختفي من أمام الرب: «أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيْ الصُّبْحِ وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ» (مزمور139: 7-10). فبما أنه لا شيء يختفي من أمام الرب، ينبغي أن لا يكون لديَّ شيء لأُخفيه. والتصرف السليم ليس هو الهروب من أمامه بل أن أطلب من الرب أن يخترق حياتي بعينه الفاحصة ويُجري عليَّ كشفًا دوريًّا (حبذا لو كان يوميًّا) ويقوِّم ما فيَّ من اعوجاج: «اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا» (مزمور139: 23، 24).
1. الشركة والخدمة
قال نبي الرب إيليا هذه العبارة: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ» (1ملوك17: 1)، وقد تعلَّم أليشع من بعده أن يعيشها ويقولها: «حَيٌّ هُوَ رَبُّ الْجُنُودِ الَّذِي أَنَا وَاقِفٌ أَمَامَهُ» (2ملوك3: 14). إن الوقوف أمام الرب هنا يعني الخدمة؛ فالملائكة مثلاً يقفون أمام الله ليسمعوا أوامره وينفذوها: «أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ...» (لوقا1: 19)، وقد اختار الرب سبط لاوي «لِيَقِفَ وَيَخْدِمَ بِاسْمِ الرَّبِّ» (تثنية18: 5).
فكما يقف الوزير أمام الملك والعبد أمام سَيِّده، هكذا يقف الخادم أمام الله ليتلقَّى منه التعليمات والتوجيهات. كان موسى يقف أمام الرب على الجبل وبعد ذلك ينزل لكي يكلِّم الشعب، وخدمة إيليا وأليشع وغيرهما لم تكن من فراغ، بل كانت تنبع من الشركة مع الرب. فلكي نخدم الرب بفاعلية علينا أن نقف أولاً “أمام الرب” في الشركة معه لمعرفة فكره من جهة ما يريدنا أن نقوم به، وفي الصلاة لأجل مَن يستخدمنا الرب معهم أو ما يستخدمنا الرب فيه، ومن هناك، من محضر الرب، ننطلق لنؤدي بأمانة ما يأمرنا به. قال أحدهم: “قبل أن تأتي بالمسيح للنفوس، عليك أولاً أن تأتي بالنفوس للمسيح.” وذلك في الصلاة من أجلهم.
2. السلوك والتقوى
لكننا لا ينبغي فقط أن “نقف” أمام الرب، لكن علينا أيضًا أن “نسير”؛ أي نسلك أمامه. قال الرب لأبرام: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً» (تكوين17: 1). ونستطيع أن نفهم أن عبارة الرب الرقيقة الحازمة في آنٍ: «سِر أمامي وكُن كاملاً!» تعني: “اسلك بكمالٍ” وذلك “أمامي”. قال أحد خدَّام الرب إن هذه العبارة تشبه كثيرًا ما يقوله الأب لابنه عندما يتعثر في مسيره راغبًا أن يرى ما إذا كان سيسير حسنًا بعد ذلك.
هل تذكر ما سجَّله المؤرخ الإلهي عن حياة زكريا وأليصابات وتقواهما وسلوكهما في وصايا الرب: «كَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ» (لوقا1: 6)؟ ما أروع أن يأتي التقرير عن سلوكنا من الرب نفسه: «فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ؛ رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ» (أيوب1: 8)! ليت الرب يُعيننا حتى نكون جميعًا كذلك!
3. المكافأة والدينونة
لكن إن كنت، يا صديقي القارئ، لم تتمتع إلى الآن بعمل المسيح الكفاري لأجلك على الصليب ولم تثق فيه من جهة مستقبلك الأبدي، فمن واجبي أن أحذرك بكل محبة أنه ستكون هناك وقفة أخرى “أمام الله” كما قال بولس: «لأَنَّنَا جَمِيعًا سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَا حَيٌّ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّهُ لِي سَتَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ وَكُلُّ لِسَانٍ سَيَحْمَدُ اللهَ» (رومية14: 10، 11).
قريبًا، وقريبًا جدًّا، سيأتي الرب يسوع من السماء ليختطف إلى السماء عروسه التي افتداها بدمه وسنقف “أمامه” للمكافأة، وبعد ذلك سنكون كل حين ليس فقط “أمامه” بل “معه”، أما أولئك الذين لم يقبلوه بالإيمان في قلوبهم ورفضوا ما عمله لأجلهم على الصليب فستنهال عليهم الضربات القضائية وسيأتي يوم رهيب فيه يقف جميع الأموات “أمامه” للقضاء: «ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشًا عَظِيمًا أَبْيَضَ، وَالْجَالِسَ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! وَرَأَيْتُ الأَمْوَاتَ صِغَارًا وَكِبَارًا وَاقِفِينَ أَمَامَ اللهِ، وَانْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ. وَانْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ الْحَيَاةِ، وَدِينَ الأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ... وَدِينُوا كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ... وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوبًا فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ» (رؤيا20: 11 15).
عزيزي، إن الأمر لا يحتمل التأخير! هَيَّا الآن اِقبَل المسيح! اقبل ما عمله لأجلك على الصليب وتمتع، في الأيام القليلة الباقية، بالوقوف أمامه في الشركة معه وخدمته، وبالسير أمامه في حياة ترضيه وتمجِّده، قبل أن يأتي وقت فيه حتمًا ستقف أمامه! إنني أرجو وأصلِّي من كل قلبي أن تقف معنا أمامه للمكافأة وليس أمام العرش العظيم الأبيض للدينونة والقضاء والطرح الأبدي في بحيرة النار! اطلب إليه بإخلاص الآن وهو لن يرفضك أبدًا!