هذه قصة شاب كان يتوق إلى الهجرة إلى بلاد ظنّ أنها بلاد الحرية، يفعل فيها ما يشاء دون رقابة. وظلَّ حُلم الهجرة يراوده يومًا فيومًا، رغم أنه نشأ في أسرة ميسورة الحال ماديًَّا، وعائلة محافظة. ولكن أحلام الهجرة لم تفارقه لحظة. كان يتحيَّن الفرصة بعد الأخرى حتى يُفتح باب الهجرة لهذه البلاد، ويقنع الأسرة بهذا الأمر. ولكن لما اعترضت الأسرة على ذلك، انعكس هذا على سلوكياته، وأثَّر تأثيرًا سلبيًا على مستقبله الدراسي، وحالته النفسية.
أصرَّ إصرارًا بالغًا على الهجرة لهذه البلاد - مهما كان الثمن. راودته فكرة أن يعرض على أبيه أن مصاريف السفر تُعطى له في صورة قرض يسدِّده إلى أبيه بعد أن تستقر به الأمور في هذه البلاد، ولكنه فوجئ برفض الأب. فما كان منه إلاّ أنه فاجأ أباه بطلب غريب، هزَّ كيان الأسرة، بل والمجتمع أيضًا، ألا وهو أن يعطيه أبوه نصيبه في الميراث!! فكيف يكون ذلك والأب ما يزال على قيد الحياة؟! ألا يجرح هذا مشاعر الأب؟! ألا يُفهم ضمنيًا من هذا الطلب الغريب أن هذا الابن يستعجل موت أبيه لكي يرث؟! ولكن الأب كتم مشاعر الحزن هذه، ولبَّى له ما أراد. وبقلبٍ حزينٍ، ومشاعرٍ جريحةٍ، أعطى الابن نصيبه. كانت الدموع تُزرف من عينيه غزارًا، لعلَّ هذا الابن يفوق من سكرته، ولكن لم يحرِّك له كل هذا ساكنًا، بل كانت نيران اللهفة إلى الهجرة أشد لهيبًا من مراعاة مشاعر الأب الجريحة.
وبعد أيامٍ قليلة كان الابن في بلاد المهجر. وهناك، مع اختلاف الثقافات، ظن أنه امتلك الحرية؛ يفعل كل ما يريد. وبدلاً من أن يتردد على أماكن العبادة ويتعرف على المؤمنين، قادته أفكاره الشريرة إلى الأماكن الموبوءة بالشر؛ فعرف الشرَّ بكل صوره. وانفجرت كل طاقات الشرِّ الكامنة داخله منذ سنين (والتي كانت تقاليد الأسرة تكبح جماحها). وهناك بذّر ماله بعيش مسرف في الجنس والمخدرات و... و... إلخ.
وبعد أن صرف كل ما يملك، كانت المفاجأة: لقد انهار الإقتصاد في بلد الهجرة، وبالتالي قَلَّت فرص العمل، وانتشرت البطالة، وأصبح من الصعب إيجاد فرصة عمل. فانتهى به المطاف بالعمل في مزرعة خنازير مقابل الغذاء فقط!! انحدرت به الأحوال من سيء إلى أسوأ، إذ حدث في هذه البلد مجاعة شديدة نتيجة للانهيار الإقتصادي الذي ألمَّ بها. فما كان من صاحب المزرعة إلاّ أن فاجأه في يومٍ من الأيام بأنه لا يستطيع أن يقدِّم له وجبة طعام واحدة!! بل عليه أن يلتقط طعامه مع الخنازير. واستمرَّ الحال هكذا من رديء إلى أردأ؛ فبدأت صحته تعتل، ولم يستطع أن يكمل العمل في المزرعة.
ولما تعب من قسوة الظروف؛ رجع إلى نفسه ليعيد حساباته وترتيب أوراقه مرة أخرى. ولكن كيف يكون ذلك وهو لا يملك الآن من حطام الدنيا شيئًا. وبعد تفكير عميق قرَّر الرجوع إلى بيت أبيه، مع تقديم الاعتذار المصحوب بالندم. ولكن هل يقبله الأب بعد كل هذه المأساة؟ وإن قبله الأب هل يقبله المجتمع؟ ووسط دوَّامات الصراع هذه، جلس يفكِّر بهدوء في مخزون المحبة التي في قلب أبيه من ناحيته، والتي لا يمكن أن عوامل شَرِّه تستطيع أن تطفئ لهيبها. وإذا كانت محبة الأب بهذا المقدار، فلا يهم رأي المجتمع.
وهنا بدأ رحلة العودة المصحوبة بالندم والقلب المنكسر والروح المنسحقة. ولكن كانت المفاجأة أنه قبل أن يتحرك سمع صوت طرقات على باب المزرعة، ولكن صوت الطرقات هذه المرة كان مختلفًا عن المرات السابقة؛ فلم تكن صوت طرقات صاحب المزرعة، تلك الطرقات المزعجة، بل كانت طرقات لها رنين خاص. وعندما فتح الباب، كانت المفأجاة المذهلة، إذ به يقف أمام أبيه وجهًا لوجه، فيمطره بالقبلات لا باللكمات.
ووقع على عنقه وقبَّله فرحًا. وقد كانت قبلات الأب أسبق من كلمات الإعتذار، بل كانت أعلى صوتًا منها. فلم يكمل الابن قصيدة الإعتذار التي كان مطلعها «أخطأتُ إلى السماء وقدامك». وبعد أن أفاق الابن من رهبة الموقف، رأى لفيفًا من عبيد أبيه كانوا في صحبته. وبعد أن ساد الصمت لحظات، اختلطت فيها دموع فرح الأب مع دموع ندم الابن، إذ بصوت الأب الحنون يقطع هذا الصمت، ويأمر عبيده بأن يُخرِجوا مما معهم من متاع، من ثياب غالية ومجوهرات ثمينة، لكي يبدأوا جميعًا رحلة العودة بهذا الابن.
واصطحب الأب ابنه إلى البيت. وهناك بدأت أفراح العودة بالابن الضال، وقد ذُبِحَ العجل المسمَّن، بأمر الأب الذي قال قولته المشهورة «ابني هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاَّ فوُجِد». فابتدأوا يفرحون.
عزيزي القارئ.. إذا كنت في بلاد الهجرة، وظننت أنها بلاد الحرية، وهناك أطلقت العنان لشهواتك، وانتهى بك المطاف باليأس والندم على ما فعلت؛ فعندي لك خبر سار، وهو أن أباك السماوي لا يزال ينتظر رجوعك. بل لا تندهش إذا قلت لك أن الله، أبيك، يقف الآن على باب قلبك، حتى ولو كانت تفوح منه رائحة الخنازير النجسة.
فافتح له الآن.. لا تؤجِّل.