بقيت حبتا قمح في يد الفلاح يوم الزرع، فسألته إحداهما: “إنت ناوي تعمل بينا إيه؟”
أجابها: “زي ما باعمل في كل الحبوب.”
فسألته بحِدّة: “بتعمل فيهم إيه؟”
“أزرعهم ليثمروا.”
“إزاي؟”
“أرميهم في الارض.”
“في الأرض؟! في الطين؟! تحت الأقدام؟!”
“تمام.. ولما تقع حبة القمح في الطين، تموت؛ وتكون النتيجة إنها تجيب ثمر.”
“لا.. لا.. أنا مش عايزة اترمي في الأرض.”
“بس كده ها تفضلي حباية واحدة لوحدك.”
“أنا عايزة أعيش.. أعيش حياتي زي ما أنا عايزة.. أقضِّيها بالطول والعرض.. أنا لسة صغيرة. لا ما تزرعنيش.”
“براحتك!”
والتفت للحبّة الثانية، التي بقيت تستمع صامتة طوال الوقت، وقال لها: “وأنتِ؟ عايزة إيه؟”
أجابت بهدوء: “عايزة اللي أنت عايزه.. عايزه أجيب ثمر.”
فرماها الزارع في الأرض، وقلَّبها في للطين، وفي لحظات اختفت عن الأنظار، تحت الأرض.
بينما أخذ الحبة الأولى، المعترضة، ووضعها جانبًا. فتنفست بسرور لأنها نجَت من مصير زميلتها: أن تُرمى في الأرض؛ لقد كانت تريد أن تخلِّص نفسها.
بعد قليل، هبَّت الرياح، فتقاذفت الحبّة هنا وهناك، فصرخت للزارع: “انجدني.. الريح بتشيل وتحط فيَّ.. أنا تعبت”.
أخذ الزارع الحبة، ووضعها على المنضدة داخل البيت ليبعدها عن الريح. ما أن استراحت قليلاً والتقطت أنفاسها، حتى فوجئت ببضعة أطفال يعبثون بها، واحد يفركها بيده، والآخر يقذفها في الهواء، والثالث يضغط عليها. فعادت للصراخ مرة أخرى: “انجدني.. تعبت من عبث الأطفال!”
أخذها الزارع، ووضعها في صوان (دولاب)، فتنفست أخيرًا لشعورها بأنها وصلت لراحتها. مَرَّ الوقت، فشعرت بضعف شديد، وبدأت تعتريها ظواهر غريبة. لمحت الفلاح، فقالت له في صوت واهن ضعيف: “ما هذا الذي يحدث لي؟” أجابها: “ده سوس. طبيعي إن الحبة اللي تتركن كتير ياكلها السوس.”
ازداد الضعف والوهن، واستمر الحال هكذا، حتى استنفذ السوس الحبة، ولم يعد لها وجود. لقد عبرت وإذ هي ليست بموجودة (مزمور37)!!
أما الحبة الثانية، التي وقعت في الأرض وماتت، فبعد وقت، جاء موسم الحصاد؛ فإذ بها أثمرت سنبلة تحمل مئة حبة قمح. اكتشفت يومها أنها لم تَمُت، بل وضعت حياتها لتُثمر مئة حياة!!
ماذا تختار أنت يا عزيزي?
من حقك أن تختار أن “تعيش حياتك” بمفهوم الكثيرين من شباب اليوم؛ تفعل ما بدا لك وما تستحسنه عيناك (جامعة11: 9). لكنك سريعًا ما ستجد نفسك ورياح شهواتك ورغباتك تتقاذفك، تارة تجري وراء هذه الرغبة وأخرى خلف تلك المتعة. يتلاعب بك الآخرون، وأنت تجري وراء رأي هذا، اليوم، ووراء رأي عكسه، غدًا. ثم حتى إذا ظننت أنك وجدت راحتك واستقريت، تجد في داخلك ما ينخر في كيانك، حتى تتلف تمام. وهكذا تنتهي هذه الحياة دون قيمة!! أيام قُضيت في “اللا شيء”، بلا هدف، سعيًا وراء السراب؛ هل نسمي مثل هذه“حياة”؟!
إن قرأت قصص حياة عظماء، سواء من الخدَّام أو العلماء أو شتى النافعين؛ فستلاحظ معي أنهم جميعًا يشتركون في أنهم لم يضيعوا شبابهم في تفاهات. أنا لا أقصد أنهم لم يتمتعوا بشبابهم، بل أقصد أنه مع كونهم شباب عاشوا سنهم بكل تفاصيله وانطلاقه وحيويته ومرحه، إلا أنهم تخلّوا اختياريًا عن الصغائر وتفاهات الأمور، ولم يسمحوا لها أن تشكِّل حياتهم؛ لأن حياتهم كان لها هدف واضح.
في المقابل، يمكن أن تختار حياة الإثمار لمجد الله، أن تتمم مشيئة الله لحياتك: أن تكون سبب خلاص لخطاة يرجعون إلى الرب. أن تصبح سبب بركة لمؤمنين يرون فيك قدوة حياة. أن يرى الناس أعمالك الحسنة ويمجِّدوا أباك الذي في السماوات. أن تكون نافعًا للآخرين. وما أعظم نتائج هذه الحياة!
مثل هذه الحياة لا يمكن أن تُقضى في التفاهات: في الاهتمام ببعض المظاهر، أو بالمقتنيات، أو بكلام الناس، أو بالمتع سريعة الزوال، أو في الأمور التي تستهلك الوقت دون نفع. بل إنها تتطلب منك بذل الجهد وتقديم التضحيات. تتطلب إنكار الذات: ألاّ تُعطي لرغباتك ومتعتك الأولوية في الحياة، أن تقبل اختياريًا أن تضحي براحتك ووقتك وجهدك، وفي بعض الأحيان حتى بكرامتك. بل وأذكِّرك أن هناك من ضحى بنفسه أيضًا في هذا الطريق. قال الرب يسوع: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى16: 24، 25). قول الرب هذا يذكِّرني بجيم إليوت (مقالة “هل كان أحمق”، عدد 77) وهو أحد الذين ضحوا بحياتهم من أجل المسيح، ومقولته الشهيرة “ليس أحمق من ضحى بما لا يمكن أن يحتفظ به، ليمتلك ما لا يمكن أن يخسره.” فمن يمكن أن يحتفظ بحياته ومتعها؟ وفي المقابل من يستطيع أن ينزع منا رضا الرب ومكافآته هنا وفي الأبدية؟!
فهل اختيارك أنك تخلِّص نفسك كما ظنَّت الحبة الأولى، فتجد حياتك قد فنت في ما لا يُجدي؟ أم ترضى أن تضع حياتك على مذبح التكريس فتجدها. الاختيار لك!
قال الرب لتلاميذه يومًا: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ (لاحظ أسلوب الشرط القاطع) فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا (هذا هو الاختيار الأول، أما الاختيار الثاني فهو:) وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. (ثم بدأ يشرح تطبيق ذلك علينا:) مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ (أي يدللها ويسعى لرفاهيتها) يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ (أي لا يسايرها في رغباتها وأهوائها) فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ (وهل من حدود لمثل هذا الإكرام؟!)» (يوحنا12: 24-26).
لعلك رأيت بدايتا الحبتين، وعرفت نهايتيهما. والآن، الاختيار لك!