اندهشت جدًا عندما سمعت عن لعبه من نوع غريب، يتسلى بها بعض شباب كاليفورنيا، يتجمعون فى مكان فسيح بسياراتهم، ويقف كل اثنين منهم، الواحد مقابل الآخر، الواحد بسيارته من هنا والآخر من هناك. ثم ينطلقون بسرعه جنونيه بسياراتهم حتى يصطدموا بشده ببعضهما! والفائز هو الذي يسبِّب أكبر خساره في سيارة الآخر!! وطبعا كانت أقل خساره هى ارتجاج فى المخ أو كسر فى العمود الفقري!!
ولم أجد تفسيرًا مقنعًا لهذا السلوك الغريب. لكننى أدركت حينذاك روعة العقل ونعمة التعقل.
أن كتابنا المقدس، كلمة الله العظيمه، قدَّم لنا سفرًا كاملاً، سفر الأمثال، ليحكى لنا بأسلوب إلهى خلاب، روعة الحكمه، وسمو العقل وفضيلة التعقل.
العقل والتعقل
ماهو المقصود بالعقل؟! هو “الذهن أو الفهم”، وهو عطيه إلهية، خصَّ بها الله روح الإنسان، للتمييز والتفكير والإدراك الصحيح «وَلكِنَّ فِي النَّاسِ رُوحًا، وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ» (أيوب32: 8).
و“المتعقل” هو الذي يُحكِّم العقل فى سلوكياته وقرارته؛ فتجده شخصًا متزنًا في سلوكياته،غير متهور أوطائشٍ، بل يتصرف بهدوء وحكمة؛ فيتم فيه كلمات الحكيم «العقل يحفظك والفهم ينصرك» (أمثال2: 11).
مصادر التعقل
1. خلاص المسيح: في لوقا8: 35، خرج أهل كورة الجدريين ليروا ما جرى للرجل المجنون، بعد أن خلَّصه المسيح وحرره من الشياطين التى سكنته طويلاً وقادته لأبشع أنواع الجنون؛ فوجدوه «لابسًا وعاقلاً جالسًا عند قدمي يسوع». فالتعقل يأتي نتيجة لخلاص المسيح من عبودية إبليس.
2. عمل النعمة: إن نعمة الله تخلِّص الخاطئ حينما يقبلها، ثم تعلِّمه حياة التعقل المسيحية، أي رفض الشر، والحياة الأدبيه الراقيه «لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ، لِجَمِيعِ النَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ» (تيطس2: 11، 12).
3.كلمة الله: «فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ، يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ»، وأيضًا «أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ، لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي» (مزمور119: 130، 99).
4. من عند الرب: فالتعقُّل هو عمل إلهى فى الإنسان، «أَمَّا الزَّوْجَةُ الْمُتَعَقِّلَةُ فَمِنْ عِنْدِ الرَّبِّ» (أمثال19: 14).
5. التثقيف والاطلاع: فالقراءه توسِّع الأفق والإدراك، ولا سيما القراءات الراقية من علوم، وأدب، وسير العظماء.
مجالات يظهر فيها التعقل
1. السلوك اليومى: شهد الله عن سلوكيات وسمو حكمة شخص المسيح بالقول: «هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا» (إشعياء52: 13).
2. إطاعة كلام الرب: «فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُل عَاقِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ» (متى7: 24).
3. حشمة المظهر: هذا ماينصح به الرسول بولس النساء قائلاً «يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل» (1تي2: 9).
4. سمة من يخدم الرب: «مُحِبًّا لِلْخَيْرِ مُتَعَقِّلاً، بَارًّا، وَرِعًا، ضَابِطًا لِنَفْسِهِ» (تيطس1: 8).
5. ملامح شيوخ الكنيسة: «أَنْ يَكُونَ الأَشْيَاخُ صَاحِينَ، ذَوِي وَقَارٍ، مُتَعَقِّلِينَ» (تيطس2: 2).
6. سلوك الزوجات : «أَنْ يَكُنَّ مُحِبَّاتٍ لِرِجَالِهِنَّ وَيُحْبِبْنَ أَوْلاَدَهُنَّ، مُتَعَقِّلاَتٍ» (تيطس2: 5). فلولا تعقّل الزوجه أبيجايل وحكمتها، لكان بيتها تدمر تمامًا،بسبب حماقة زوجها نابال، لذلك امتدحها داود بالقول «مبارك عقلك» (1صموئيل25: 33). عكس امرأة أيوب التي قيل عنها «كإحدى الجاهلات» (أيوب2: 10).
7. حالة المؤمنين قرب مجيء الرب: «وَإِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ اقْتَرَبَتْ، فَتَعَقَّلُوا وَاصْحُوا لِلصَّلَوَاتِ» (1بطرس4: 7). فقمة التعقل فى الأيام الأخيرة، أن نلتصق بالرب بحياة الصلاة.
8. ضبط النفس فى الكلام: «أَمَّا الضَّابِطُ شَفَتَيْهِ فَعَاقِلٌ» (أمثال10: 19). بل أحيانًا يصمت عن الكلام أذ يدرك أن الكلام لا يفيد «لِذلِكَ يَصْمُتُ الْعَاقِلُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ لأَنَّهُ زَمَانٌ رَدِيء» (عا5: 13).
9. الهروب من الشر: «اَلذَّكِيُّ يُبْصِرُ الشَّرَّ فَيَتَوَارَى، وَالْحَمْقَى يَعْبُرُونَ فَيُعَاقَبُونَ» (أمثال22: 3). هذا ما فعله يوسف أمام امرأه فوطيفار؛ فبتعقّل هرب من الشر فأكرمه الرب. ويصف سليمان الحكيم من يندفع بشهوته للزنا بأنه «غلام عديم الفهم» انتهى به المطاف «كثور يذهب للذبح» (أمثال7: 7، 22).
ألا تشعرون معي أحبائي بحاجتنا الشديده لفضيلة التعقل؟!
بركات يحصدها المتعقِّل
أن كان التهور والاندفاع وعدم التريث يقود للخسارة والنتائج المريرة، فالتعقل يجلب لصاحبه كثير من البركات.
1. الحفظ والكرامة: يقول الحكيم «فَالْعَقْلُ يَحْفَظُكَ، وَالْفَهْمُ يَنْصُرُكَ» (أمثال2: 11). يحفظك من الضياع والانحراف، وينصرك في كل قراراتك. فالتعقل حفظ يوسف من الانحدار، ونصره فى إدارة مصر في سني الجوع. وهذا بشهادة فرعون عنه «ليس بصير وحكيم مثلك أنت تكون على بيتي» (تكوين41: 39).
2. إدراك حقيقي لأمور الله: لم يستطع نبوخذ نصر - مع كل عظمته - أن يدرك حقيقة سيادة الله على ممالك البشر، فتسلط وتكبَّر وتجبَّر، فأنحط قدره وصار يأكل العشب كالثيران!! ولم يفهم هذا القانون إلا بعد أن رجع إليه عقله - وهذا ما قاله بفمه- «رَفَعْتُ عَيْنَيَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَرَجَعَ إِلَيَّ عَقْلِي، وَبَارَكْتُ الْعَلِيَّ... وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟» (دانيآل4: 34، 35). فما أروع التعقل!
قارئى العزيز.. هل تطلب معي معونةً وتعقّلاً من الرب، ليحفظنا من التصرفات الهوجاء، والقرارات غير المتعقلة، التي تجلب علينا وعلى أسرنا متاعب كثيرة؟
فالكتاب المقدس يحذرنا من خطورة عدم التعقل بالقول «شَعْبٌ لاَ يَعْقِلُ يُصْرَعُ» (هوشع4: 14). كما أن الروح القدس فى المزمور الثانى ينصح قائلاً «فَالآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا» وكيف نتعقل؟ «قَبِّلُوا الابْنَ»؛ أي اقبلوا المسيح فى حياتكم والتصقوا به (مزمور2: 10، 12). فمن المسيح ننال كل التعقل؛ فهو الذي قال عن نفسه «لِي الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ. أَنَا الْفَهْمُ. لِي الْقُدْرَةُ... لأَنَّهُ مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ الْحَيَاةَ، وَيَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ، وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ» (أمثال8: 14، 35).