رأينا في الأعداد السابقة دعوة الرب لتلاميذه أن يتبعوه، وكيف لبّاها الكثيرون وضحّوا بالكثير؛ إذ رأو أن الرب أغلي من أي غالٍ، واجتازوا امتحان المعطلات بنجاح، وتخلّوا عن كل شيء. ورأينا بينهم المُخلِصين الذين كرَّسوا الحياة له، فتبعوه تمامًا، وبالتالي تعلموا من الرب ما يتبعوه وما لا يتبعوه. ولأن الرب يريد من تابعيه الاستعداد للتضحية وحساب النفقة جيدًا؛ لذا أعلن من البداية ما سنتأمل فيه في هذا العدد:
كلفة اتباع الرب
«وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا» (لوقا9: 23، 24). في هذه الاقوال أعلن الرب للتلاميذ، ولنا، أن هناك كلفة وثمنًا، وعلي كل من يريد اتّباع الرب أن يعرفها ويحسبها وهي: إنكار النفس، حمل الصليب.
1– إنكار النفس
إنكار النفس يعني بالبلدي “معرفهاش”؛ ففي الحقيقة هي أكبر المعطلات في طريق اتّباع الرب. وإنكار النفس ليس المقصود منه حرمان نفوسنا من أشياء مباحة للإنسان الطبيعي، أو ما يسمي بالحقوق المشروعة، من أجل تبعية الرب؛ بل أكثر من هذا. وسنحصر كلامنا الآن في هذا الموضوع في نقطتين:
أولا: تعريفات
1- من ينكر نفسه يقول مع بولس «مع المسيح صلبت؛ فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غلاطية2: 20). فلا يدور حول نفسه واحتياجاتها واهتماماتها، بل يكون المسيح محور حياته. وهنا فقط يستطيع التخلي عن ما يسمى بالحقوق. ولا ننسى أن العالم بمبادئه يقود الإنسان أن يقول لنفسه: «وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي!» (لوقا12: 19). أما إنكار النفس فيقود المؤمن ليقول «ينبغي أن ذلك – أي المسيح – يزيد، وأني أنا أنقص» (يوحنا 3: 30).
2- إنكار النفس ما هو إلا تعبير عملي خارجي عن حالة أدبية داخلية وُجدت في مؤمن اتّبع الرب الذي قال: «تعلموا مني... فتجدوا راحة لنفوسكم» (متي 11: 29). فمن يتبع الرب يتعلم منه، وبالتالي يجد الراحه والهدوء الداخلي ولا يخاف علي شيء يخسره. هو أكثر سعادة من الذي يطلب ما لنفسه؛ لأن عنده كَمّ كبير من القناعة والاكتفاء.
3- من ينكر نفسه لا يتعرض لآلام نفسية لكونه مظلوم وطموحه لم يتحقق ولم يأخذ فرصته ليحقق شيئًا ويجد نفسه. بل هو يرتوي من ينبوع له تأثير داخلي عميق لا يستطيع العالم أن يعطيه «ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا» (يوحنا14: 27). وحتى وهو يتعامل مع الآخرين يكون مبدأه العطاء لا الأخذ.
4- إنكار النفس هو رفض تابع المسيح لأن يعيش لنفسه ولرغباته الداخلية، حتي المشروعة منها. فلا ينشغل إلا بالتشبّه بسيده. كما قال بولس «ولا نفسي ثمينة عندي». وأكثر من ذلك، فالكتاب علَّمنا أنَّ تابع الرب لا ينكر نفسه فقط بل «يبغض نفسه» (يوحنا12: 25). لأن مبدأ الناس وما تعلمه كتبهم أن الإنسان يحب نفسه، وهذه من صفات الانسان السيئة في الأيام الأخيرة «محبين لأنفسهم» (2تيموثاوس3: 2). ولهذا لا يقبلون ولا يفهمون ما لروح الله؛ فمحبة النفس تقود الإنسان ليخدم نفسه. أما من يحب الرب أكثر من نفسه فيخدم الرب الذي رفض أن يربح نفسه بل وضعها وأطاع حتي الموت موت الصليب. ولا يستطيع الوصول لمستوى إنكار النفس إلا مؤمن امتلك ما هو حقيقي “المسيح”، بكل ما فيه وما له من غنى وكرامة ومجد.
ثانيًا: تطبيقات
إنكار النفس أمام إساءات الآخرين: وأنت تابع للمسيح، أكيد ستتعرض لإساءة واحتقار وتعيير البعض، والنفس البشرية تريد الرد بنفس المكيال وأكثر، أو حتي الاحتمال علي مضض. أما من ينكر نفسه، فكأنه لم يسمع شيئًا. وهنا سيخرج بتدريب جديد في حياته الروحية من هذه الاساءات. خذ مثلاً داود، عندما سبَّه شمعي بن جيرا، فماذا كان رد الفعل عند داود، وهو قادر علي قتله بإشارة واحدة لأحد جنوده؟! لكنه قال «دعوه يسب لأن الرب قال له سب داود» (2صموئيل 16).
إنكار النفس أمام مدح الآخرين: في طريق اتباع الرب تجد الحاقدين الكارهين يسبونك وأيضا تجد الماكرين المنافقين يمدحونك. وفي هذا خطر علي من لا ينكر نفسه لأنه سيشعر أنه شيء بعد أن يفعل أي شيء. خذ مثلا بولس عندما شفي مقعد من بطن أمه في لسترة ماذا حدث؟ «فَالْجُمُوعُ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ بُولُسُ، رَفَعُوا صَوْتَهُمْ بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ قَائِلِينَ: إِنَّ الآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا... فَلَمَّا سَمِعَ الرَّسُولاَنِ، بَرْنَابَا وَبُولُسُ، مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا، وَانْدَفَعَا إِلَى الْجَمْعِ صَارِخَيْنِ وَقَائِلِينَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ، لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هذَا؟ نَحْنُ أَيْضًا بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ، نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هذِهِ الأَبَاطِيلِ إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ» (أعمال 14: 11-15).
إنكار النفس عند الانتصار والنجاح في الحياة الروحية: خطر شديد يضعه إبليس في طريق تابع الرب – وبصفة خاصة من يخدمون - وهو العُجب بالذات والرضا عن النفس. وكثيرون سقطوا، ليس بسبب المعركة، بل بسبب انتصارهم فيها. ليس بسبب عدم قيامهم بالخدمة، بل بسبب نجاحهم فيها. خذ مثلاً إيليا النبي: في 1ملوك 18 حقق انتصارًا عظيمًا انتهي بذبح 450 نبيًا للبعل، وأعاد الشعب لمعرفة الله، ولكن في الأصحاح التالي يقول الكتاب «قام ومضي لأجل نفسه». والسبب ليس فقط تهديد إيزابل له بالقتل، بل قد يكون أيضًا شعوره بالانتصار. كذلك داود، بعد انتصارات متتالية واستعباده الملوك الأعداء له (2صموئيل10)، سقط سقطته الشهيرة - زنا وقتل – إذ خلع منطقة الحرب وصعد علي السطح ليتمشى.
صديقي:
هل حسبت النفقة؟ هل تحيا لنفسك؟ أم تنكر نفسك، وتتبع من أحبك ووضع نفسه وأسلم نفسه للموت لأجلك؟ ليتك تفعل ذلك.