أرعبنى وهز كياني ووجداني... هذا المنظر الذي طالعتنا به وسائل الأعلام المصرية، بعض الجنود وهم يضربون ويسحلون إنسانًا، ويجرِّدونه من ملابسه تمامًا. بل ويجرّونه على الأرض في مشهد لم أرَه طوال حياتي من قبل!!
وبِغَضِّ النظر عن فكر هذا أو ذاك، لكن قلبي ما زال موجوعًا من هذه القساوة واللإنسانية.
هذا شيء يسير من سلوكيات البشر في هذه الأيام!! قد يختلفون في المقدار والمعيار، من فظاظة كلامهم إلى قساوة أفعالهم، لكن سلوكياتهم جميعًا ينقصها فضيلة جميلة، ألا وهي “الرحمة”. وما أسعد حياتنا جميعًا إذا تحلينا بها.
معنى الرحمة الرحمة من جانب الله هي أن لا يعاملني بما استحقّه، ومن جهة الإنسان مع الإنسان هي إظهار المشاعر الطيبة والشفقة في معاملة الآخر ولا سيما في آلامه.
الخطية وقساوة القلبلم يخلق الله الإنسان قاسيًا، بل خلقه على صورة الله!! وإن كان الله «كثير الرحمة» فمن أين جاء هذا المخلوق - الإنسان - بهذا الكم من الشراسة والقساوة؟!!
يقول الكتاب المقدس «وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم»، الذي هو الرحمة ومصدرها، كانت النتيجة أن البشر بدون الله أصبحوا «مملوئين حسدًا وقتلاً... بلا حنو ولا رضى ولا رحمة» (رومية1: 28-31).
فلا عجب أن نسمع أن «أيادي الأمهات الحنائن طبخت أولادهن» (مراثي4: 10). ولا عجب أن نسمع عن ولد عاق يهين والديه بكل قساوة، أو شخصًا يغتصب فتاة ثم يقتلها... إنها البشرية بدون الله الرحيم.
مصدر الرحمة
«الله الذي هو غني في الرحمة» (أفسس2: 4). نعم فالله هو مصدر الرحمة ومعطيها. وفي سبيل إظهار هذه الرحمة للخطاة، مثلي ومثلك، لم يشفق على ابنه يسوع المسيح على الصليب وتمت كلمات الكتاب «الرحمة والحق ألتقيا، البِرِّ والسلام تلاثما» (مزمور85: 10).
وكل من يتقابل مع الله عند صليب المسيح، يأخذ منه رحمة الغفران، بل ويأخذ أيضًا قلبًا رحيمًا يفيض بالرحمة على الآخرين.
وهذا واضح تمامًا مع شاول الطرسوسي، الإرهابي الذي وصف نفسه بالقول «أنا الذي كنت قبلاً مجدّفًا ومضطَهِدًا ومفتريًا. ولكنني رُحمت»، والسر هو «أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة الذين أولهم أنا» (1تيموثاوس1: 13-15). لكنه أيضًا امتلأ بالرحمة للغير فيقول «وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُشْفِقُ عَلَيْكُمْ» (1كورنثوس7: 28)، بل كان ينذر وينصح «بدموع كل واحد» (أعمال20: 31).
سلوكيات الرحمة
إن المسيح الساكن في قلوب مفدييه، يجعل من قلوبهم منبعًا للرحمة والشفقة على الغير، والتي تظهر في صور متعددة نذكر البعض منها:
1. الشفقة على المتألم: حكى الرب يسوع قصة رائعة عن ذلك السامري، الذي تحنَّن على المجروح الملقى على الطريق بين حي وميت، وكيف بحبٍّ ضمَّد جراحاته، وأركبه على دابّته بل وأخذه الى فندق ودفع له الحساب. ولخَّص الرب هذا العمل الرحيم بعنوان جميل «الذي صنع معه الرحمة». ونصح الرب مستمعه قائلاً «أذهب أنت أيضًا واصنع هكذا» (لوقا10: 33-37).
2. البشارة للخطاة: يقول الوحي الإلهي «وأرحموا البعض مميِّزين، وخلّصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار» (يهوذا 22)؛ فأحشاء المسيح داخل كل مؤمن تقي تضطرم غيرة وشفقة على النفوس التي في طريقها للجحيم فينطلق، اللسان ببشارة الخلاص لإنقاذهم. وهذه أعظم رحمة.
3. إراحة الوالدين وأسعادهم: طوبى للأبناء الذين يشفقون على آبائهم وأمهاتهم؛ يقول الرب “تطول أيامهم على الأرض”، وما أتعس من يهينون والديهم بجفائهم أو بكلماتهم الخشنة، ينطفئ سراجهم في حدقة الظلام (أمثال20:20). فما أروع ما عمله داود مع والديه، رغم أنه كان مُطَارَد من شاول، لكنه اهتم بحنان كبير بحماية والديه «وقال لملك موآب ليخرج أبي وأمي إليكم... فودعهما عند ملك مؤاب» (1صموئيل22: 3).
4. على الحيوانات البكماء: يقول الحكيم «الصدّيق يراعي نفس بهيمته أما مراحم الأشرار فقاسيه» (أمثال12: 10). بينما بلعام الشرير القاسي ظلّ يضرب حمارته بقسوة، وتمنّى أن يكون معه سيف ليقتلها!! لا لشيء إلا أنها رأت ملاك الرب فوقفت أحترامًا له... فيا للقساوة!!
خطورة عدم الرحمه للغير
قَصّ المسيح مثلاً عن هذا العبد الذي سامحه سيده بعشرة آلاف وزنه، أي ما يساوي ملايين الجنيات بعملة اليوم، والغريب أن هذا العبد لم يرضَ أن يسامح زميله بمئه دينار - مبلغ لا يتعدى بضعة آلاف - بل وألقاه في السجن أيضًا!! فأحضر الملك هذا العبد مرة أخرى وقال له «أيها العبد الشرير... كان ينبغي أنك أنت أيضًا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا. وغضب سيده وسلمه إلى المعذبين» (متى18: 33).
وعلق الرب بالقول «فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لاخيه زلاته». فمن يغفر ويرحم ويشفق على إخوته، يعامله الآب السماوي بالمثل ومن لا يَرحم لا يُرحَم!!
اخوتي الأحباء...«طوبى للرحماء لأنهم يُرحَمون» (متى5: 7)، هكذا قال المسيح، بل وهذا ما يريده منا «وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة» (ميخا6: 8).
هل تصلي معي طالبًا من الرب تطهيرًا وحفظًا من الخطية التى تملأ القلب بالقسوة، وأيضًا طالبًا منه أن يملأك بأحشاء ومشاعر المسيح، «أحشاء رافات ولطفًا وتواضعًا ووداعة وطول اناة» (كولوسي3: 12)، فنكون مشابهين لإلهنا تمامًا «فكونوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ» (لوقا6: 36).