يقول الرسول يوحنا: «وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم: إيماننا» (1يوحنا5: 4). ذلك لأن الإيمان ينقلنا إلى الدوائر السماوية، فيفقد العالم بريقه وجاذبيته بالنسبة لنا. الإيمان يقبل الحقيقة التي أعلنها المسيح مرتين في صلاته للآب أننا لسنا من هذا العالم كما أنه هو ليس من هذا العالم (يوحنا17: 14، 16). لقد كان المسيح هو الرب من السماء، وكذلك نحن أصبحنا سماويين إذ ارتبطنا بالمسيح. ويخبرنا الرسول بولس وهو يحدثنا عن مقاصد النعمة الأزلية، أن الله اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم (أفسس1: 4)، أي أننا مشروع إلهي سابق للنظام العالمي الذي تكوَّن بعد السقوط ودخول الخطية، وبالتالي فإننا مشروع أبدي سيبقى بعد انقضاء العالم. وطالما الأمر كذلك، فإننا لا نتبع مسار هذا العالم ولا ينبغي أن نتشبه به ولا نتأثر بمبادئه. إننا نحمل الجنسية السماوية (فيلبي3: 20)، وعلينا أن نعيش في هذا العالم كغرباء وتحكمنا المبادئ السماوية. الإيمان يدرك حقيقة هذا العالم الحاضر الشرير وبُطلان ما يقدّمه، ويعرف مصيره، وأنه يمضي وشهوته تزول، فلا ينخدع ببريقه وإغراءاته. كما أنه لا يخشى وعيده وتهديداته. ومن ناحية أخرى فإنه يمسك بالعالم الآتي ويتعلق بالوطن السماوي. الإيمان يعطينا اليقين بما لا بد أن يكون عن قريب.
ظهر إله المجد لإبراهيم ودعاه أن يخرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت ابيه، وهو بالإيمان لما دُعي أطاع وخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب (عبرانيين11: 8). لقد ترك العالم وراء ظهره: الأرض والميراث والأهل والممتلكات والمصالح وكل شيء، وسار بالإيمان في رحلته وهو لا يعلم إلى أين يأتي، لأنه اطمأن واستأمن إله المجد الذي في نعمته رضي أن يتعامل معه ويدعوه، ووثق أنه لن يفعل سوى كل الخير. لقد سار بالإيمان وراء شخص يعلم، حتى لو كان هو شخصيًا لا يعلم إلى أين؟ وبعد الرحلة الطويلة والتي بلغت 1600 كيلومترًا، وصل إلى أرض كنعان. وهناك اجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم (تكوين12)، والكتاب لا يقول أنه استقر فيها. ومن اليوم الأول أظهر الطابع السماوي، وأنه مجرد عابر ومسافر وغريب في هذه الأرض. والرسول يخبرنا أنه سكن في خيام لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات (عبرانيين11: 10). لم ينشغل بالأرض ولا بالبركات الأرضية، بل كان مشغولاً بإله المجد ومجد الوطن السماوي، وقنع بأنه غريب ونزيل، يعيش في العالم ولا يعيش العالم فيه. كان سعيدًا بشركته مع الرب الذي ظهر له، مستمتعًا بمواعيده، ساجدًا إذ بنى مذبحًا للرب، ومنفصلاً عن مبادئ العالم إذ نصب خيمته بين بيت إيل وعاي التي تعني كومة خراب، وهي تجسِّم نظرة الإيمان للعالم، وكان شاهدًا للرب في هذه البلاد حيث دعا هناك باسم الرب. كان في قمة النجاح عندما كان يسلك بالإيمان وليس بالعيان.
على أننا نراه فجأة يرتحل عن بيت إيل، المكان الذي ظهر له الرب فيه، وينحدر إلى مصر التي تُمثل العالم، وكان ذلك بسبب الجوع. لقد سلك بالعيان وليس الإيمان وفقد البساطة والهدف الواحد، وانخدع وانجذب وراء العالم. وفي مصر حصد المرار، وحلَّت به الخسائر، وتعلَّم درسًا بين الأشواك، وخرج منها موبَّخًا من فرعون. لقد رد الرب نفسه، وتعامل معه بنعمة سامية، ولم يُفقَد له شيء. فاستعاد اتزانه الروحي وعاد إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة، وبنى هناك مذبحًا للرب، ودعا مرة أخرى باسم الرب، وفهم الدرس درسًا للزمان.
على النقيض نرى لوطًا الذي كان سائرًا مع أبرام، وكان مؤمنًا، لكنه كان يسير بالعيان وليس بالإيمان، ولا يرى سوى الأمور الوقتية الأرضية، لم يرَ إله المجد ولا مجد المدينة التي لها الأساسات. نزل معه إلى مصر وصعد معه من مصر، لكن قلبه تعلَّق بمصر. إنه صورة لمؤمن يحب العالم وينبهر بالأشياء التي في العالم. فمع أول خلاف بين رعاة مواشي أبرام ورعاة مواشيه اعتزل لوط عن أبرام. وقد أظهرت المخاصمة معدن إبراهيم السماوي كما أظهرت المطامع العالمية في قلب لوط. الشخص السماوي يتحمل الخسارة ويتفادى الخصام حرصًا على الشهادة، ولا تفرق معه الأمور المادية، فهو يدرك أنه غريب وأنه يستعمل هذا العالم مجرد استعمال في الرحلة القصيرة. أما الشخص العالمي فنظرته مادية ولا يُقدِّر أمور الرب، والشهادة ليست أمرًا هامًا بالنسبة له، إنه لا يعرف معنى الدعوة السماوية. وعندما اختار مكانًا لسكناه اختار سدوم ودائرة الأردن لأن جميعها أرض سقي. ولم يشعر بالقلق أن أهلها أشرارٌ وخطاة لدى الرب جدًا. وفي سدوم حلَّت به النكبات وخسر كل شيء وتعرض للسبي والموت. وبينما نرى إبراهيم رجل الإيمان يحارب وينتصر ويحرر من الأسر ويُرجع المسبيين (تكوين14)، فإننا نرى لوطًا يسقط في مصير واحد مع العالم لأنه ربط نفسه بالعالم. وفي رجوعه بعد الانتصار نرى أبرام يترفع عن عطايا ملك سدوم ويقول: «رفعت يديَّ إلى الرب الإله العلي مالك السماء والأرض إني لا آخذ منك خيطًا ولا شراك نعل، لئلا تقول أنا أغنيت أبرام» (تكوين14). فالإيمان يرفض غنى العالم وعطايا الناس.
إن كل الآباء عاشوا بالإيمان وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض، وكانوا يتمسكون بالوطن السماوي والعالم الآتي (عبرانيين11: 13).
كذلك يخبرنا الكتاب عن أبوي موسى وهم في أرض مصر، تحت العبودية، أنهما بالإيمان بعدما وُلد موسى أخفاه لأنهما رأيا الصبي جميلاً ولم يخشيا أمر الملك (عبرانيين11: 23). وهنا نرى الإيمان الذي ينتصر على وعيد وتهديد العالم مُمثَّلاً في فرعون والمصريين. أما موسى نفسه فبالإيمان «لما كبر، أبى أن يُدعَى ابن ابنة فرعون، مفضلاً بالأحرى أن يُذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية. حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة» (عبرانيين11: 24-26). وهنا نرى أن الإيمان ينتصر على وعود وبريق العالم ومجده. أخيرًا نراه مرة أخرى يترك مصر غير خائف من غضب الملك، لأنه تشدد كأنه يرى من لا يُرى (عبرانيين11: 27). وهنا نرى أيضًا أن الإيمان ينتصر على وعيد وتهديد العالم.