بدأنا في العدد السابق الكلام عن كُلفة اتِّباع الرب، ورأينا أن إنكار النفس واحدة من أهم العقبات التي تقابل تابع المسيح، وفي هذا العدد سنتأمل في كُلفة أخرى، ألاوهي:
2– حَمل الصليب
المسيح والصليب: في طريق تتميم مشيئة الله، حمل المسيح الصليب «خرج (يسوع) وهو حامل صليبه» (يوحنا19: 17)، وفي الجلجثة رُفع على الصليب. وعلينا كتابعي المسيح أن نتبع خطواته في ذات الدرب؛ فلكي نتمم مشيئته الصالحة في حياتنا، علينا أن نحمل الصليب، وأيضًا نحمل عليه شعار «صُلب العالم لي وأنا للعالم» (غلاطية6: 14).
معنى حمل الصليب: الصليب هنا ليس عاهة جسدية أعيش بها، ولا مشكلة عائلية أحتملها، ولا حرمان من شيء ما أرضى به، وكل واحد يبكي ليلاه ويقول “أنا صليبي ثقيل”. لكن الصليب هو طريق سار فيه قبلنا السيد العظيم، ولم يجد فيه إلا كل عار وضيق ورفض واضطهاد من الناس، ومع هذا تميَّزت حياته بالطاعة والخضوع لإرادة أبيه، وبالمحبة والعطاء للآخرين، وبالصبر والوداعة في مواجهة الألم. وما زال الطريق قائمًا، والناس الأشرار يتقدمون للأردأ، وعلى تابع المسيح أن يسير في الطريق ذاته، قابلاً العار والإهانة، بل والموت، لأجل المسيح.
المسيحي والصليب: أشار الرب في كلامه مع تلاميذه إلى حَمل الصليب خمس مرات، في ثلاث مناسبات، كالتالي:
1- «من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنةً أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني» (متى10: 37-38؛ لوقا14: 27).
2- حينئذ قال يسوع لتلاميذه: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني؛ فإن من أراد أن يخلِّص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها» (متى16: 24؛ مرقس8: 34).
3– وقال للجميع: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني» (لوقا9: 23).
وفي المناسبات الثلاث نرى:
1– الصليب والمحبة الطبيعية
المحبة علاقة عاطفية مشروعة، والرب أوصانا أن نحبّ بعضنا بعضًا، ونحب القريب، ونحب الأعداء. ومن أوصى بهذا لا يوصي هنا بإهمال الوالدين أو كراهية الآخرين، بل المؤمن المكرس للرب يقوم بدوره تجاه الآخرين بكل أمانة ويحب من قلب طاهر. ولكن عندما يكون الخيار بين محبتنا للرب وللآخرين، فيجب صلب المحبة الطبيعية على الصليب. وفي هذا شيء من الألم، ولكن يجب أن تكون المحبة الأولى في القلب للرب وحده، وأي محبة أخرى أمام محبتنا للمسيح تُرى وكأنها بُغضة.
مثال: في إبراهيم مثال لذلك، فقد أطاع وخرج من أرضه ومن بيت أبيه عندما دعاه الرب. ثم أحب الرب أكثر عندما قدّم الذي يحبه إسحاق، وهنا حمل الصليب بكل آلامه وأعلن محبته وإخلاصه للرب (تكوين22). وعلى النقيض منه كان يوناثان؛ فلقد أحب داود في البداية محبة عجيبة (1صموئيل18)، ولكن عندما جاء وقت حمل الصليب واتّباع داود على الجبال والمغاير، اختار أن يكون مع شاول وفي القصر. إبراهيم صلب عواطفه البشرية وأحب الرب فتمتع بمواعيد الرب على جبل المريا، ويوناثان فضَّل رفاهية القصر عن تراب المغارة فمات مع شاول على جبال جلبوع.
2– الصليب والنفس البشرية
عندما ابتدأ الرب يُظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب لأورشليم ويتألم ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم، قال له بطرس «حاشاك لا يكون لك هذا». حينئذ تكلم الرب معهم عن حمل الصليب وخلاص النفس من صعوبات العالم أو إهلاكها من أجل المسيح والإنجيل. ثم قال قولته الشهيرة «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟» (متى16: 21-26). والمعنى أنه في اتّباعنا المسيح لا نفكِّر في إنقاذ النفس من أي خسارة ناتجة لاتّباعنا الرب وتفضيل الطريق السهل. فعندما تُقابلنا الصعوبة التي تتطلب حمل الصليب، سيأتي صوت الشيطان - على لسان بطرس - “لا يكون لك هذا، خلص نفسك من هذا”. وهنا الامتحان: هل نخلّصها أم نميتها بحمل الصليب؟
إن بُغضة النفس تعني التخلي عن الرغبات الطبيعية في هذا العالم، ونقول مع الرسول بولس «ولكنني لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي حتى أتمم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع لأشهد ببشارة نعمة الله» (أعمال20: 24).
3- الصليب والأمجاد الأرضية
تكلّم الرب هنا عن حمل الصليب واتّباعه بعد حديث له مع التلاميذ سألهم فيه «من تقول الجموع أني أنا؟» وسألهم «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ أَنِّي أَنَا؟ فأجاب بطرس: مسيح الله (الذي سيأتي ويملك بحسب انتظار اليهود)». فأوصى أن لا يقولوا ذلك لأحد ثم تكلم معهم عن موته وقيامته. وكأن الرب أراد أن يقول إنه لم يكن قد أتى ليملك أو يأخذ شيئًا من العالم، بل ليحمل صليبه ويموت. وهذا يعني أننا، ونحن نستخدم هذا العالم، كأننا لا نستخدمه؛ فهو مجرد طريق نعبره وأرض نمُرّ فيها، نمشي لا نميل يمينًا ولا يسارًا حتى نتجاوز حدوده (اقرأ سفر العدد20: 17، 18). ولا ننسى امرأة لوط التي خرجت من سدوم ولم تحمل صليبها لتموت عن سدوم، بل أخذتها في قلبها؛ فاشتهتها فنظرت خلفها فماتت بسببها. فتخلّينا عن العالم يجب أن لا يكون ظاهريًا بل نقول عمليا «وأما من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم» (غلاطية6: 14).
صديقي القارئ: اتّباع الرب يسوع شرف يجب أن نفتخر به، وكُلفة يجب أن نحسبها أولاً، ثم ندفعها بسرور؛ فالمسيح «من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزي» (عبرانيين12: 2).
فهل حسبت النفقة؟
هل تبعت المسيح؟
هل حملت صليبك؟