انتقل الزوجان إلى منزل جديد، تحيطه حديقة جميلة ذات زهور بديعة. وفي صباح اليوم الأول لإقامتهما في المنزل جلسا سويًا يتناولان الإفطار في المطبخ الجديد الذي يُطل على حديقة منزلهم، وفور جلوسهما أشارت الزوجة من خلف النافذة الزجاجية التي تفصلهما عن الحديقة وقالت لزوجها بإستنكار: “إن غسيل جارتنا ليس نظيفًا، لا بد أنها تشتري مسحوقًا رخيصًا. أو ربما تستخدم كمية قليلة من المسحوق”. تطلع الزوج عبر النافذة، وأومأ برأسه لزوجته ثم أكمل إفطاره، وانطلق للعمل، وبعدها غادرت زوجته أيضًا للعمل.
في اليوم التالي تكرر ذات الموقف، فما أن جلسا على طاولة الطعام حتى بادرت الزوجة بالقول: “يا لها من سيدة غريبة، ألا ترى أن الغسيل متسخ جدًا؟ كيف تحتمل أن ترى غسيلها بهذه الصورة؟”. تطلع الزوج عبر النافذة إلى غسيل جيرانهم كاليوم السابق مندهشًا من الأمر، ثم أكملا وجبتهما وانطلقا كلٍ إلى مكان عمله.
استمر هذا الموقف لعدة أيام متتالية، حتى بدأ الزوج يَمَل من الأمر. وبعد حوالي أسبوع جلسا كعادتهما في نفس المكان. وفجأة صاحت الزوجة: “أخيرًا!!” فتطلع إليها زوجها متسائلاً: “أخيرًا ماذا؟” أجابته، وهي تشير بيديها نحو النافذة: “واضح أن جارتنا عرفت المشكلة، انظر إلى الغسيل إنه نظيفٌ جدًا اليوم”. لم يلتفت الزوج ناحية النافذة كعادته، إنما نظر إلى زوجته، ومال نحوها مبتسمًا وهو يقول لها بصوت خافت: “زوجتي العزيزة، لقد استيقظت اليوم مبكرًا واكتشفت أن زجاج نافذتنا هو الذي كان متسخًا جدًا، فقمت بتنظيفه. لهذا رأيتِ الغسيل نظيفًا. المشكلة ليست في جارتنا، إنما المشكلة الحقيقية في نافذتنا”.
أحمر وجه الزوجة خجلاً، وابتسمت في ارتباك، ثم تمتمت بكلمات غير مفهومة استنتج الزوج منها أنها كلمات إعتذار، فربت على كتفيها. ثم انطلق للعمل كعادته. تاركًا زوجته تُطل من النافذة على غسيل جارتهم النظيف جدًا.
عزيزي الشاب، أختي الشابة
كثيرًا ما نتسرع في الحكم على الآخرين، وكثيرًا ما نخطئ في الحكم على غيرنا بسبب أحكامنا المتسرّعة. والقلب البشري يميل دائمًا لإدانة الآخرين، رغم أنه يمتلئ بالعيوب. قال المسيح: «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا» (متى7: 1). فربما ذات الأمر الذي ندين به الآخرين نعاني نحن منه دون أن نشعر، بل ولا نبالغ إن قلنا إن مشكلتنا كثيرًا ما تكون أكبر من مشكلة الذي ندينه. هذا ما قاله المسيح في ذات العظة للجموع: «وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا» (متى7: 3). فربما يكون الذي في عين أخيك مجرد قذى صغيرة، بينما في عينيك أنت خشبة كبيرة، لكنك تتجاهل الخشبة التي في عينك وتنظر للقذى التي في عين أخيك، فتُكيل له الإدانة والإتهام، وتُحمِّله الخطأ، بينما تعاني أنت من خطإٍ أكبر ومشكلة أصعب.
وقصتنا اليوم تعلَّمنا درسًا آخر؛ أننا ربما ندين الآخرين بشيء غير موجود فيهم على الإطلاق، بينما العيب كله يكون فينا. في كثير من الأحيان نحكم على الآخرين بأحكام قاسية، ثم نكتشف بعد وقت أننا نحن الذين أخطأنا، بينما الآخرون لا يعانون من أي مشكلة من الأساس. نكتشف أن نافذتنا كانت متسخة ونحن نرى حياة الآخرين. وربما نُطلق أحكامًا خاطئة بسبب مشكلة نعانيها نحن في حياتنا. أو نحكم على الناس بناءً على ما يظهر ويبدو أمامنا على السطح، بينما حينما نقترب منهم نكتشف أن حكمنا كان خاطئًا تمامًا. سمعت عشرات القصص التي تؤكد هذا المعنى. قصة منها حكاها لي أحد الشباب الذي ظل لفترة طويلة يسخر من أحد الخدام طوال العظة، بسبب وقفته الغريبة على المنبر.
ثم فوجئ بعد نهاية العظة أن الأمر يتعلق بمشكلة مؤثرة جدًا يعاني منها هذا الخادم. فشعر ذلك الشاب بضيق شديد من نفسه، وامتلأ خجلاً من هذا التصرف غير اللائق. قال المسيح: «لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً» (يوحنا7: 24). فالظاهر يخدع كثيرًا، ولا يعبر أبدًا عن الحقيقة. ومن يحكم بالظاهر لا بد وأن يخطئ. لقد سأل المسيح يومًا: «لِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِالْحَقِّ» (لوقا12: 57). لماذا نميل دائمًا لإلقاء الأحكام على الآخرين دون تفكير؟ ولماذا نسخر من هذا وذاك دون مراجعة لأنفسنا؟ لماذا نشعر باستمتاع خاص ونحن نتكلم عن الآخرين بالساعات، ونتناول تفاصيل حياتهم الخاصة، ونحاول إظهار كل العيوب التي نلاحظها في سلوكهم وكلامهم دون خجل أو حتى مجرد الشعور بعدم صحة ما نفعله؟ بالتأكيد المشكلة الأكبر ليست في الناس بل فينا، فليست حياة الآخرين هي المتسخة والملطخة بالعيوب، إنما أفكارنا وقلوبنا هي المشوَّهة وملطخة بعيوب كثيرة. أو ربما نحاول إخفاء عيوبنا بتناول عيوب الآخرين في كل أحاديثنا، ليتنا لا نحاول تبييض سيرتنا بتسويد سيرة الآخرين.
يومًا أطلق يوحنا والتلاميذ حكمًا سريعًا على آخرين، ولم يتوقفوا عند حدود الحكم فقط، بل إن الأمر تطور إلى سلوك أيضًا، فقاموا بمنع ذلك الشخص الذي كان يخرج الشياطين؛ لمجرد أنه لم يكن يتبعهم. وتخيل يوحنا أن الرب سيمدحهم على هذا الأمر. وإذ به يُفَاجَئ مع بقية التلاميذ بأن الرب يفعل العكس (لوقا9: 46 50). لقد أطلقوا حكمًا سريعًا خاطئًا لمجرد أن الرجل ليس معهم ولا يتبعهم. هذا ما نسقط فيه جميعًا؛ نحكم على الآخرين أنهم على خطإ لمجرّد أنهم يختلفون عنا ولا يتبعوننا. لا يفكِّرون مثلنا، ولا يتكلمون كما نتكلم، أو يصلّون كما نصلي أو يخدمون بطريقتنا... الخ. سنفاجأ يومًا أن أجرهم لا يضيع.
أما لو افترضنا أننا فعلاً نحكم بشكل صحيح على غيرنا، فمن أعطانا هذا الحق. وما لنا نحن بغيرنا؟ هل صرنا بلا عيوب حتى نلتفت لعيوب الآخرين؟ هل أصلحنا كل أخطائنا حتى نحاول إصلاح أخطاء الآخرين؟ لقد قال أحدهم: يجعلنا الشيطان نهتم بأخطاء الآخرين، حتى يشغلنا عن أخطائنا.
أعظم ما نفعله أن نُصلح عيوبنا، ونكتشف أخطاءنا في محضر الله، قبل الاهتمام بغيرنا والانشغال بما يفعلون. ثق أنه حينما ترى عيوبك وأخطاءك في محضر الله لن تهتم بعيوب الآخرين واخطائهم، بل ستلتمس لهم العذر وتحنو عليهم وتترفق بهم؛ لأن من يعرف ضربة قلبه، حتمًا لن يشعر يومًا أنه أفضل من الآخرين.