عرفنا - في العدد الماضي - أن الله “الرزاق” هو قناعة مغروسة في أذهان البشر، ومطبوعة في أفعالهم اليومية. أما هنا، فإن الله “الكريم” تختلف قليلاً عن الله “الرزاق”؛ فالرزق يُعتبر عمل سيادي من أعمال الله تعالى، ولا يمكن أن يقوم به سواه، ولكن “الكرم” هو صفة إنسانية كما أنه صفة إلهية أيضًا، فيصح لنا أن نُخفِض نظرنا ونصف الإنسان الترابي أنه “كريم” (أو بعكس الصفة أنه “بخيل”)، ويصح لنا أيضًا أن نرفع عيوننا للعلي لكي نترجاه قائلين:
يا “كريم” (وسيفاجئنا بالخير الجزيل)!!
“يا كريم” والامتحان!!تتميز صفة “الكرم” أنها صفة حميدة مأمولة من الجميع، وأنها لا يمكن أن يُعبَّر عنها بالكلام فقط، ولكن يجب أن تُمتحَن بالمواقف العملية المختلفة. بمعنى أنك سهل جدًا أن تُقنع الناس شفاهةً أنك “كريم”، وسهل جدًا أن تُنسِج القصص من خيالك التي تثبت ذلك، ولكن في المواقف العملية يتم امتحان وجود هذه الصفة فيك من عدمها، وهو امتحان يجيده الأصدقاء بشكل كبير!!
والحقيقة أن الكتاب المقدس يحكي لنا عن ملكين عظيمين تعرضا لهذا الامتحان لإثبات كرمهما من عدمه: الأول هو أحشويرش، الذي كان يحكم دولة فارسية مترامية الأطراف مكونة من 127 دولة، وتم امتحان كرمه من خلال وليمة كبيرة جدًا لآلاف من رؤساء شعبه، واستمرت لمدة 180 يوم!! وختمها بوليمة أخرى لمدة سبعة أيام، خاصة بسكان عاصمته “شوشن القصر” فقط!! (أستير1: 1-9). ونجح أحشويرش في الامتحان وشُهِد عن “كرمه” في تسلسل بديع «جلس على كرسي المُلك... عمل وليمة لجميع رؤسائه وعبيده... أظهر غنى مجد ملكه ووقار جلال عظمته... حسب كرم الملك» (أستير1: 2-4، 7).
أما الملك الثاني فتم امتحان “كرمه” من لجنة خارجية أتت من اليمن!! حين «سَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَا بِخَبَرِ سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ، فَأَتَتْ لِتَمْتَحِنَهُ بِمَسَائِلَ»، وبعد أن قضت معه وقتًا ما، كانت النتيجة هي نجاح سليمان الباهر في الامتحان، وأيضًا انبهار الملكة الكامل بعظمته وبحكمته وبعظمة “كرمه” على عبيده وعلى زواره، وشهدت هي بنفسها «هوذا النصف لم أُخبَر به»، وتمت الكلمات «وَأَعْطَى الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِمَلِكَةِ سَبَا كُلَّ مُشْتَهَاهَا الَّذِي طَلَبَتْ، عَدَا مَا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ حَسَبَ كَرَمِ الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ» (1ملوك10: 1، 7، 13)، ومن هذين المثالين السابقين نستنتج فكرة بسيطة لكن هامة: أنت “كريم”؟! رائع... اثبت ذلك بدلاً من أن تقوله!!
“يا كريم” والفيضان!!والآن، فلنترك البشر (الكرماء المساكين) ونرفع أعيننا إلى ساكن السماء (الكريم الأعظم) لنسأله: أيها الإله “الكريم” هل ستنجح في امتحان “الكرم”؟! وهل ستثبت لنا “كرمك” بالأفعال، أم أنك ستكتفي فقط بالشعارات والأقوال؟! وقبل أن تنزِل من السماء أعيننا، وقبل أن يجف الدعاء من أفواهنا، سنكتشف أن الإله العظيم المحب، قد أغرق الإنسان بفيضان من “الكرم” غير المحدود، يتناسب بشدة مع عظمته ومحبته غير المحدودة.
فإذا تلقفنا بداية خيط النسيج البشري، وتأملنا في أول أحداثه الكبرى في الخليقة، فسنكتشف أن الله “الكريم” تعمد أن يخلق الإنسان بعد أن جهز له، في خمسة أيام سابقة، كل ما يحتاجه قبل حتى أن يوجد. فلم يخلق الله للإنسان نوعًا واحدًا من النباتات ليأكله، ولكنه كثَّر من الأنواع والألوان والأطعمة المختلفة (تكوين1: 11)!! ولم يخلق الله “الكريم” للإنسان مصدرًا واحدًا للإنارة، ولكن خلق النورين الأعظمين؛ الشمس والقمر (تكوين1: 16)، بالإضافة لنجومه وآياته في الفلك!
ولم يكتفِ الله “الكريم” بكل هذا، ولكنه وضع الإنسان شخصيًا تحت نظره، لكي يتلامس لحظيًا مع احتياجاته، ويستمتع يوميًا بالشركة والسير معه (تكوين2: 8)، وكانت واحدة من أروع “إكراميات” الله للإنسان في الجنة، هو عندما “أكرمه” بزوجة من صنع الله شخصياً تؤنس وحدته الإنسانية، وتعينه على تحقيق أعماله الوجودية، فيا له من “كريم”!!
بل إننا إذا مررنا إلى أصعب عقدة في النسيج البشري؛ وهي الخطية، فسيفاجئنا الله بدُرَّة هذا الفيضان من “الكرم” الإلهي الفائق؛ وهو مشروع الصليب، والذي فيه لم يبخل الله “الكريم” بأعز ما يملك؛ وهو ابنه الحبيب يسوع فـ«لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين» (رومية8: 32)، قدَّمه من أجل خلاص نفوسنا الملوثة بالخطية.
أما إذا ألقينا نظرة على نهاية خيط النسيج البشري في الأبدية، فلا يوجد وصف لكرم الله فيها، إلا ما كتبه بولس الرسول «ما لم ترَ عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه» (1كورنثوس2: 9)، وبالتالي أجزل الله إعلان “كرمه” للبشرية من أول أحداثها (الخليقة) إلى أهم أحداثها (الصليب) إلى أخر أحداثها (الأبدية)، وكلها تعلن بقوة كيف يمكن أن يكون الله بالحقيقة هو “الكريم”!!
“يا كريم” والتساؤلات!!إذًا علمنا أن “الكرم” هو صفة جميلة تُثبت بالامتحان العملي وليس بالقول العسلي، وعلمنا أيضًا أن الله “الكريم” غمرنا بفيضان رهيب من “كرمه” يشهد عنه تاريخ النسيج البشري من بدايته حتى نهايته، وهنا نتساءل:
لماذا نحن “بخلاء” جدًا مع أنفسنا، فلا نستمتع بما جهَّزه الله خالقنا من “كرم” وفير، وفي نفس الوقت نحن “كرماء” جدًا في أن نعيش حالة من اليبوسة والقحط والشُح المرير؟ ولماذا نحن “بخلاء” مع الله، فلا نجزل له الشكر والحمد والعطاء، وفي نفس الوقت نحن “كرماء” جدًا في نقده والتذمر على خططه ووصاياه عند أي تجربة أو ابتلاء؟
ولماذا نحن “بخلاء” مع احتياجات الناس حولنا، فلا نتجاوب معهم، ونمنع أخبار الفداء والغفران عنهم، وفي نفس الوقت نحن “كرماء” جدًا في تصدير “التكشيرة” و“التبويز” لهم الذي يشوه صورة الله “الكريم” في أذهانهم؟!! ولماذا نعيش حياة كئيبة منتظرين “إكراميات” زمنية (أموال، عقارات، مقتنيات، زوجة، أولاد)، وفي نفس الوقت نكون متغافلين عن ما أعده الله “الكريم” من “إكراميات” الأبدية؟!
الكل بيمثِّل إنه جوَّاد وكريم،
وكرمه ما يزيد عن أماني وأقوال
والغالب فيهم بيفضل أناني وبخيل،
ولا عنده للحب والعطاء أي احتمال
لكني فخور بيك يا إلهي،
لأنك عن الناس متميز ومختلف
ومن الأزل للأبد حاببني،
وواخدني لكرمك ولحبَّك هدف
لدرجة عطيتني ابنك حبيبك،
لما قلبي عن وصاياك انحرف
إدّيني ماكنش “بخيل” مع اسمك،
وأشهد بكرمك للناس وللأجيال
وينطبع في ابتسامتي ملامح كرمك،
وساعتها ها تتغير الأحوال