قد تسمعها من جارك الذي “يصبًّح” عليك، وهو يهيئ عمله اليومي فيقول: اصطبحنا واصطبح “المُلك لله”!!
أو قد تسمعها من جالس على “القهوة”، ضاق به الحال فجلس يتأمل الأحوال، وينظر لأعلى قائلاً: “إيه ... صحيح المُلك لله”!!
هي كلمة خاصة جدًا، سنأخذها هنا من معناها الروحي، الذي يجعلنا نختبر ونعيش في حياتنا المسيحية، روعة كلمة “المُلك لله”.
“المُلك لله” و العقد المزدوج!حقيقة “مُلك الله” للكون يقينية، فالكل يعلم أن الله هو الملك المتوج على كل الخليقة، ما نراه منها وما لا نراه، أو بلغة إبراهيم أبو المؤمنين هو «الرَّبِّ الإله الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاءِ والأرض» (تكوين14: 22). وبأنه وحده له اختصاص إعطاء “المُلك” لمن يشاء، ونزعه منه متى يشاء. عرف عنه أقوى ملوك التاريخ وأشرسهم «أنّ اللَّهَ الْعَلِيَّ سُلْطَانٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَأَنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهَا مَنْ يَشَاءُ» (دانيآل5: 21؛ أمثال 8: 15، 16). فلا جدال بين رئيس ومرؤؤس أن “المُلك لله” وحده في هذه الأرض.
لكن ما يخصّنا نحن، أتباع الرب يسوع المسيح، هو البُعد الأخر لهذه الكلمة، وأقصد به هو “مُلك الله” على حياة الإنسان. فمن سلَّم حياته مرة للمسيح، خضع بإرادته لعقد امتلاك مزدوج لمُلك الله على حياته؛ وهذا العقد المزدوج، في صفحته الأولى، أن الله له الحق أن يملك على الإنسان، لأنه خلقه لمجده (إشعياء 43: 7)، أما في صفحته الثانية، فإن الله له حق “المُلك” على حياة الإنسان، لأن المسيح؛ الله الظاهر في الجسد (1تيموثاوس 3: 16) «صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا» (عبرانيين1: 3)، ودفع ثمن امتلاكه للمرة الثانية. فالمؤمنون يخضعون لمُلك الله على حياتهم بشكل كلي، لأنه خلقهم ولأنه فداهم، «لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ» (1كورنثوس6: 20). فإذا قال البشر العاديين والملوك الزائلين مرة أن “المُلك لله”، فإن على المؤمنين المفديين، أن يقولوها ويعيشوها باستمرار: أن “المُلك لله” على بيوتهم وأجسادهم وأرواحهم وكلهم.
“المُلك لله” و الإجابة!
كل ما سبق ليس فيه جديد عليً ولا عليك، ولكن ما قد يكون جديدًا عليك - عزيزي القارئ - هو ذلك السؤال الذي طالما سألته وهو: أنا أعلم أني ملكٌ لله مرتين؛ مرة عندما خلقني، ومرة عندما فداني، وأشتاق كثيرًا أن يملك الله بالكامل على حياتي، وأرنم أكثر عن هذا الأمر (ملكي يا ملكي... تُملك فيَّ يا ربي...)، ولكن: لماذا لا يحدث هذا “المُلك” فعليًا وعمليًا في حياتي؟!! ولماذا لا يراني الناس أرضًا غير قابلة للبيع، ويرونني دائمًا طريقًا (متى13: 4) يطمع فيه الذاهب والآتي؟!! وهل سأظل أرنم وأتكلم أن “المُلك لله” ولا أعيش وأنفذ حقيقة أن “المُلك لله”!!
والحقيقة أني وجدت إجابة بديهية لهذا السؤال المحوري، وتخيلت الله كمن يقف على باب شقتي (حياتي)، ويحمل في يده العقد المزدوج الذي يثبت امتلاكه لي، وأنا من الداخل أريده أن يمتلك كل شبر فيَّ، وتساءلت عن المانع الذي يعيقه ويعطله؟! فإذ بي أكتشف، أن هناك الكثير من الأمور والأفكار، التي أعتمد عليها وأتمسك بها، والتي تملأ شقتي دون إرادة الله، وعلي أولاً أن أفرغها خارجيًا، ثم تأتي المرحلة الثانية، ويدخل هذا الغني، ليمتلك كلّيًا ما قد خلقه وفداه.
“المُلك لله” و عملية التفريغ!!
مُلك الله لحياتنا، لا يتم في الفرص الملتهبة، ولا بالترانيم الحماسية التي تطالبه بذلك، وإن كان هذا حسنًا، ولكن يجب أن يسبق هذا عملية في منتهى الأهمية؛ هي عملية التفريغ، وفيها يتفرغ المؤمن من كل ما يعطِّل مُلك الله لحياته، سواء كان شرورًا أو أفكار أو أي أمور أخرى، وبالتالي يكون جاهزًا لمُلك الله في حياته.
فكِّر في موسى، الذي خطَّط له الله قبل ولادته أن يستخدمه لخلاص شعبه، لذا كان يجب أن يمتلك كيان موسى بالتمام، فيسيطر على عقله ومشاعره وإرادته وكل تحركاته. ولكن للأسف، عندما كبر موسى، كان يحتفظ ببعض المُتَكَلات التي يعتمد عليها، والتي لم يكن على استعداد لتركها، وظن أنها ربما ستساعد الله في خطته، ولكنها للأسف كانت عائقًا عطَّل “مُلك الله” في حياة موسى!
فقد اعتمد موسى أولاً على علاقته واتصالاته ومكانته عند فرعون (أعمال 7: 21)، واعتمد ثانيًا على فصاحته الكلامية وقدراته الدبلوماسية (أعنال7: 22)، واعتمد ثالثًا على عواطفه المشتعلة على معاناة العبرانيين إخوته (خروج2: 11). وعلى أساس العوامل الثلاثة السابقة، خرج ليخلِّص شعبه معتمدًا على ذاته، وظن أن قتله للرجل المصري هو أول خطوات نجاح هذا الأمر، ولكن في اليوم التالي، عندما رفض الرجلان العبرانيان وساطته، وأخبروه أنهما يعرفان بقتله للمصري، كانت الصدمة الكبرى له، فقد خسر مرة واحدة كل ما كان يعتمد عليه؛ فقد بات مطَارَدًا من فرعون، ومرفوضًا من شعبه إسرائيل، وخاسرًا لكل مهارته وحكمته ودبلوماسيته!!
وهنا كان لابد أن تحدث عملية التفريغ له، واستغرقت 40 سنة، وتمت في أصعب غرفة عمليات في البرية الحارقة؛ فقد انفرد به الله، لكي يفرغه مما اعتمد عليه، ولكي يجهزه لكي يمتلك حياته بالتمام. ونجحت العملية بامتياز، إذ نسمع موسى عندما دعاه الله ليخلص شعبه، يقول: «مَنْ أنَا حَتَّى اذْهَبَ إلَى فِرْعَوْنَ... هَا هُمْ لا يُصَدِّقُونَنِي وَلا يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ... ولَسْتُ أنَا صَاحِبَ كَلامٍ مُنْذُ أمْسِ وَلا أوَّلِ مِنْ أمْسِ .... بَلْ أنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ» (خروج3: 11؛ 4: 1، 10). ومن يدقِّق في الكلمات السابقة يكتشف أن الثلاثة المعتمدات، والتي كان يتكل موسى عليها، ها هو يعلن لله، أن حياته قد فرغت من أي متكل أو معتمد ضد الله، وبالتالي فالمكان في حياته (شقته) أصبح شاغرًا، وهو جاهز لمُلك الله الكامل عليه، ولقيادة الله الكاملة على تحركاته، وهنا فقط استطاع موسى أن يقول “المُلك لله”!!
لا جدال على أن الله يريد أن يملك على حياتنا، ولا جدال أيضًا أننا نطلب منه هذا الأمر كثيرًا، ولكن دعنا ننتبه أننا لن نختبر “مُلك الله” لحياتنا، وقيادته الكاملة لنا، وعجائبه التي سيفعلها بنا، إن لم نقبل عملية التفريغ التي يفعلها في حياتنا، والتي قد يستخدم فيها أمور صعبة لا نفهمها، فقد يفرغنا من اتكال على إنسان أو على أنفسنا، أو يفرغنا من ميزة ظننا أننا سنظل نمتلكها، أو يسمح لنا بخسارة في المكان الذي طالما شهد مكاسبنا. ولكن تأكد أنه إن كانت عملية التفريغ مؤلمة وطويلة، فإن كل رجال الله المستخدمين، في الماضي والحاضر، قد اجتازوا فيها، وعند نجاحها ستعيش هذه الكلمة الرائعة: “المُلك لله”.
ياما رنمّتلك وصلّيت،
إنك تيجي تملك عليَّ وتسمع طِلباتي
ومن قلبي اشتقت واتمنيت،
إنك بجلالك تهدي وتقود خطواتي
وكنت باسأل:
ايه اللي بره حياتي موقَّفك؟!!
واكتشفت إن ماعنديش مكان
في كياني فاضي يقبلك
وإن عليً أفضى من جوايا،
من كل اعتماد بيعطلك
ساعدني اجتاز في أصعب عملية،
واتفرغ من جميع متكلاتي
ولو كانت صعبة ومؤلمة ليّ!
كفاية إن “مُلكك” ها يتستعلن في حياتي