في عيادة طبيب: "كلمة شكر" أم" قصيدة حب"؟!
من وقت قريب كنت متواجدًا مع أحد الأحباء في عيادة طبيب. في أغلب الأحيان، عندما تطول فترة الانتظار أحاول أن أشغل هذا الوقت في قراءة كتيب صغير أو أسمع قراءات كتابية من تليفوني المحمول. لكن عادة، لا أجد مفرًا من أن أسمع تعليقات الجالسين حولنا أو أن أقرأ شيئًا ملفتًا للانتباه على الحائط. لكسر ملل الانتظار الطويل، أحيانا أجول ببصري في المكان لألقي نظرة على اللوحات المعلقة، سواء كانت وسيلة إيضاح طبية أو بعض الشهادات الحاصل عليها الطبيب.
استوقفتني لوحة كبيرة الحجم عبارة عن قصيدة من 12 بيت شعري، مكتوبة بخط كبير لدرجة أنه يمكن لأي شخص أن يقرأها وهو جالس مكانه. واضح من التوقيع أدناها أن كاتبها هو أحد المرضى الذين عالجهم هذا الطبيب. كان موضوع وغرض القصيدة بالطبع هو مدح الطبيب.
جذب انتباهي أن كاتبها، صَبَّ جُلَّ تقديره وكل مشاعره في هذه القصيدة البليغة المؤثرة. بدأها بمدح البلد الذي نشأ فيه الطبيب، وطوَّب الأسرة التي تربى فيها، والسماء التي عاش تحتها والنيل الذي منه ارتوى. أشار إلى علمه الغزير وخبراته الكثيرة. لكنه أسهب في وصف قلبه الرقيق وخصاله الحميدة. عندما وصل إلى قلب القصيدة، أخذ يشرح كيف أن هذا الطبيب داوى جروحه، بيديه التي سالمت جسده وأراحت قلبه. ختم القصيدة بأرق كلمات الشكر والامتنان وأيضًا بالوعد والدعاء.. نعم بالوعد.. وعد الطبيب أنه لن ينساه، بل سيظل في قلبه ما دام حياً لأنه - على حد قوله - عمل معه معروفًا ووضع حدًّا لعذابه، ويدعو الله أن يكرمه ويزيد من علمه وأفضاله.
خواطر في الذهن ووقفة تأملأسعدني أن يكون عند الناس تقديرًا للمعروف واعترافًا بالجميل، وجال بخاطري بضعة أسئلة: كل هذا الحب لهذا الطبيب؟! كل هذا المديح، ناله بعد عملية جراحية أجراها لأحد مرضاه؟ هل يا ترى كان هذا المريض مُجبَرًا أن يكتب تلك القصيدة الممتلئة بمشاعر التقدير والحب والوفاء؟ أم سطرها بقلمه بعد أن فاض قلبه بكلماتها، بكل رضا وطيب خاطر؟
ارتسم في مخيلتي سريعًا، مقارنة يظهر فيها البون الشاسع بين هذا الطبيب ومخلِّصي العظيم، الرب يسوع المسيح. هذه التساؤلات جالت في خاطري وحرَّكت مشاعري المختلطة في داخلي. امتزجت مشاعر الإعجاب مع مشاعر الخجل. إعجابي بشخص المسيح في رقة قلبه وعظمة إحسانه، وخجلي من كل مرة سبَّحته بقلب فاتر وفي كل مرة لم يلتهب فيها قلبي وأنا أمتدح فضائله.
المسيح لم يُجرِ لي عملية جراحية كي أُشفى من خلالها، لكن كي أعيش أنا مات هو من أجلي.
ولم يداوِ جروحي فحسب، بل هو الذي جُرح وتألّم كثيرًا عني ليشفي قلبي وروحي.
سيدي لم يَضرِب مشرَطه في جسدي، بل هو الذي ضُرِب بسيف عدل الله نيابة عني.
لم أدفع له أجرًا، بل هو الذي سدَّد ديوني الثقيلة.
لم يهبني صحة تدوم لسنوات، بل وهبني حياة أبدية.
"أي تضحية ضحاها وأي ميتة مات بها!
أي عذاب احتمل وأي معروف عمل!"
إن كان هذا المريض كتب هذه القصيدة البليغة مدفوعًا بمشاعر التقدير والحب لطبيبه، كَمّ بالأولى جدًا يستحق منا فادينا.
الرب يستحق تسبيح الشفاهما فعله كاتب القصيدة ليس سوى لمحة بسيطة عن مغزى التسبيح الذي نقدِّمه للرب، مع الفرق الشاسع في الحالتين بين غرض المديح واستحقاقه. يقول مرنم المزامير «سبحوا الرَّبَّ، لأَنَّ التَّرَنُّمَ لإِلهِنَا صَالِحٌ. لأَنَّهُ مُلِذٌّ. التَّسْبِيحُ لاَئِقٌ» (مزمور147: 1) ما أبلغ وصف التسبيح للرب!: “صَالِحٌ... مُلِذٌّ... لاَئِقٌ”.
من حيث الجوهر: التسبيح هو صالح وجيد، وهو أعظم وأثمن ما يمكن أن يُقدّمه كائن عاقل، لله.
ومن حيث التأثير: التسبيح هو مُلِذّ ومُسِرّ، فكل ما يُسرّ الرب، يُسرّ قديسيه.
ومن حيث المظهر: التسبيح هو حسنٌ ولائق «بِالْمُسْتَقِيمِينَ يَلِيقُ التَّسْبِيحُ» (مزمور33: 1).
كان ملوك وأمراء العرب قديمًا يوظفون شعراء في قصورهم ليقولوا قصائد مديح لهم، مُستخدمين أقوى التعبيرات الغنية بالصور البلاغية، يُعبّرون فيها عن محاسن ملكهم أو أميرهم. لدرجة أن بعضهم يبارى الآخر لكي يسترضوا أسيادهم ويستجدوا منفعة من رضاهم. هذه القصائد مشبَّعة بالكذب والتملق والنفاق والمبالغة التي تفوق الوصف، أقل ما يوصف به أنه “مديح غير لائق”، فهم يرددون سجايا وفضائل ليست في محلها، لا تنطبق من بعيد أو قريب على أسيادهم. أما وصف التسبيح للرب بأنه «لاَئِقٌ»، لأنه مديح في محله؛ ليست فيه ذرة مبالغة، بل ستبقى اللغة ذاتها عاجزة عن أن تجد الكلمات التي تصف عظمة شخصه وصفاته.
عزيزي الشاب، ألا ترى أن الرب يستحق منا أن نرنم له من قلوبنا عندما نلتف حوله في اجتماعاتنا؟ ألا توافقني أنه يستحق أن نعبِّر له عن حبنا حتى ولو بعبارات بسيطة لكن تنبع من القلب بكل صدق؟ إذًا لماذا تصمت وتبخل على الرب بالمديح وكلمات الشكر في اجتماعات العبادة؟
بنحبك نسجد ليك انت فادينا |
بنحبك نرفع ليك كل أغانينا |
بنحبك انت لينا كل ما لينا |
بنحبك ياللي ساكن في أوانينا |
الرب يستحق تكريس الحياةالرب يستحق ليس فقط تسبيح الشفاه وشكر القلب، بل أن نقدِّم ما هو أثمن. أثمن عطاء يمكن أن يقدِّمه إنسان هو أن يقدِّم نفسه وهذا هو التكريس، أن تخصِّص الحياة لحسابه وتُنفق من أجله.
عزيزي الشاب.. لا أقصد أنك فقط ترنم وتقول: “يا رب ليتني لك أكرس الحياة”، بل بنعمة الرب تستودع حياتك لتكون تحت تصرفه ليفعل بك ما يشاء طالما سيكرم اسمه فيها.
حياة التكريس تتلخص في كلمتين: قداسة + طاعة. كل ما لنا وفينا ملكه ومخصَّص لحسابه ورهن أمره. المؤمن الذي يدرك أنه عبد ليسوع المسيح، يستطيع أن يخدمه ويكون دائمًا تحت رايته، وعينه على سيده ليكون رهن إشارته.
القداسة تبرهن أننا له ولغيره لن نكون. والطاعة هي برهان لربوبيته، كما أنها مفتاح لبركات كثيرة، ولا يمكن بدونها أن نكون في مشيئة الرب، ولا يمكن بدونها أن نفعل أمور عظيمة من أجل الرب.