كان المنظر لافتًا للانتباه؛ ذلك المشهد الذي كان بين مارك ذي السنوات السبع، وأخته ميرنا ذات السنوات التسع. بدأ الأمر بذلك الحوار الذي دار بينهما. قالت ميرنا لأخيها: ما هذه الحركات التي تقوم بها؟!
فأجابها مارك بصوت يحاول أن يجعله جهوريًا: أنا قوي وعندما أكبر سأكون بطل من أبطال الـ Wii (إحدى الألعاب الإلكترونية) مثل جون سينا. سأهزم الجميع ولن يستطيع أحد أن يهزمني.
ضحكت ميرنا ضحكة عالية وهي تقول له: يبدو أنك لا ترى نفسك جيدًا، قف أمام المرآة وتطلع لنفسك جيدًا يا مارك! ألا ترى نحافتك الشديدة وجسدك الهزيل؟!
بدا مارك غاضبًا من عبارة أخته الأخيرة، واتجه نحوها ومال بوجهه تجاهها وهو يقول: لا تقولي هذا الكلام السخيف! أستطيع أن أثبت لكِ أنكِ على خطإٍ!
أجابته بسرعة: إذًا إن كنت على استعداد لذلك، فدعنا نلعب معًا لعبة بسيطة، بعدها نحكم إن كنت قويًّا أم ضعيفًا.
ابتسم مارك ابتسامة واسعة تعلن قبوله التحدي، بينما خرجت ميرنا من الغرفة لتبدأ في تنفيذ لعبتها، بينما ظل مارك واقفًا بشغف وتحفز منتظرًا أخته.
عادت ميرنا إلى الغرفة وفي يدها لفافة من الخيط الرفيع الذي تستخدمه والدتهم في حياكة الملابس. وفور دخولها قال مارك بلغة ساخرة: هيَّا أريني ما هي لعبتك، يا سيدتي!
قالت له ميرنا: أعطِني يديك لأربطهما بذلك الخيط ونرى إن كنت تستطيع فك يديك أم لا؟
ضحك مارك ضحكة مصطنعة مجلجلة وهو يقول: أهذه لعبتك؟! يا لكِ من مسكينة!
ثم مدَّ يديه، وبدأت ميرنا في ربط يديه بكل ما عندها من قوة، وأخذت تلف الخيوط حول يديه عدة مرات، ثم قالت له: هيَّا يا بطل فُك نفسك من هذه القيود!
حرَّك مارك يديه لبضع ثوانٍ ثم استجمع قوته وحرَّك يديه معًا بكل قوته؛ فتقطعت الخيوط وانفكت يداه، فصار يقفز فرحًا ويصرخ بأعلى صوته: لقد انتصرت، أنا الأقوى، أنا البطل، مارك صار بطلاً!
انتظرته ميرنا حتى هدأ تمامًا ثم قالت له: ما هذا الذي تفعله؟ لقد كان خيطًا رقيقًا ناعمًا. أتحسب نفسك بطلاً لمجرد أنك قطعت خيطًا كهذا؟
أجابها مارك بذات الصوت المرتفع وبنبرة الواثق المنتصر: هاتِ كل ما لديك، افعلي ما شئتِ، فأنا بطل الأبطال ولا يقف أمامي شيء.
قالت له ميرنا وقد لمعت عيناها بفكرة ما: إذًا انتظر دقيقة واحدة وسنقوم بالتحدي الأعظم.
خرجت مرة أخرى، لكن هذه المرة إلى الشرفة، وأحضرت حبلاً متينًا كان متبقيًا من حبال الغسيل المربوطة في الشرفة. وما أن دخلت الغرفة حتى تقدَّم نحوها مارك بكل ثقة وثبات ومد يديه لها مُعلِنًا قبول التحدي مرة أخرى. أمسكت ميرنا بيديه، وبكل قوتها بدأت تربط يديه وتلف الحبل مرات ومرات، وكلما كانت تشعر بأن هذا يكفي كانت تتذكر ضحكات مارك الساخرة في المرة السابقة فتعيد لف الحبل مرات ومرات، وأخيرًا ربطت الحبل من نهايته بكل قوتها، ثم وقفت بكل تحدي أمام مارك وقالت له: هيا يا بطل الأبطال، فك يديك الآن!
بدأ مارك في تحريك كلتا يديه، وشعر أن الأمر أصعب من ذي قبل، لكنه لم يضعف بل بكل قوته حَرَّك يديه لكنه لم يستطع تحريرها كالمرة الأولى. شعر ببعض العرق يتصبب على جبينه. نظر إلى ميرنا فرآها مبتسمة فامتلأ غيظًا، وبدأ في تحريك يديه بشكل عشوائي حتى يتخلص من ذلك الحبل الغليظ، وشعر أن الحبل يزداد تعقيدًا كلما حرك يديه. ورغم شعوره بصعوبة الموقف إلا إنه لم يفكر في أن يطلب المساعدة من ميرنا حتى لا تشمت فيه بعد ذلك. بدأت ميرنا تشعر بالأزمة قالت له: هل أساعدك؟ لم يُجِبها مارك؛ فعرفت أن الأمر خرج من دائرة اللعب والهزار. تقدّمت نحو مارك، وحاولت أن تفك الحبل لكنها لم تستطع، ولاحظت أن يدي مارك بدأت تظهر بها خطوط زرقاء غريبة. ارتبكت جدًّا وبدأ مارك يبكي من الألم. فأسرعت ميرنا خارج الغرفة وهي تنادي على والدتها بكل قوتها. فأتت والدتهما مفزوعة وصرخت لما رأت ذلك الموقف وأسرعت إلى المطبخ وأحضرت مقصًّا وقطعت الحبل عدة مرات حتى حَرَّرت يدي مارك تمامًا. ثم عالجت يديه ببعض المراهم والمسكنات إلا إن الحبل ترك أثرًا واضحًا في يدي مارك استمر أيامًا.
أخي، أختي...
هذه القصة البسيطة تحكي عني وعنك، تحكي عن خيوط الخطية البسيطة التي ارتضينا أن نلعب بها، حتى صارت قيودًا غليظة تُقيِّد أيادينا وأرجلنا وقلوبنا وأفكارنا. تحكي عن كل ما بدأناه بضحك ولعب وهزار ثم تحوَّل إلى أمر خطير ومتأزِّم ويدعو للحزن. تحكي عن كل مَرَّة حاولنا نفك أنفسنا بأنفسنا فازداد الأمر تعقيدًا وازدادات القيود قيودًا. هذه القصة تحكي عن آثار الخطية التي صارت واضحة جدًّا في كلامنا وتصرفاتنا ونظراتنا وأفكارنا. انخدع شمشمون بقُوَّته ولعب مع الخطية فصارت نهايته محزنة جدًّا، وصار هو مثلاً مُخيفًا لكل من يُهادِن الخطية. تهاون لوط في حياته وتخيَّل أن العالم سيعطيه الكثير، وتوقَّع أن ينجح في مسايرة العالم، فأمسك بحبال العالم بكل قوته، إلى أن اكتشف أن قيود العالم قد التفت حوله وحول كل بيته. يقول الكتاب: «الشِّرِّيرُ تَأْخُذُهُ آثَامُهُ وَبِحِبَالِ خَطِيَّتِهِ يُمْسَكُ» (أمثال5: 22). هل ما زالت خطاياك تأخذك، وحبال آثامك تُمسِكك؟ هل ما زلت مُقيَّدًا بقيود الخطية والشر والنجاسة؟
هل ما زال اليأس يملكك، والخوف يسيطر عليك من كثرة ما فعلت؟!
أقول لك: لا تحاول أن تحرِّر نفسك، ولا تلجأ لآخرين ليحرروك، إنما التحرير الحقيقي والتحرير الكامل هو في يد المُحَرِّر العظيم والمُخَلِّص القدير؛ ربنا يسوع المسيح، الذي قال: «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا» (يوحنا8: 36).
إسحق أنور