يلذ لنا التأمل في أعظم شخص عاش أروع حياة، شهد عنها كل من سمع أقواله ورأى أعماله. فعندما تكلم لم يتكلم إنسان مثله، وعندما عمل لم يعمل أحد أعماله. لقد أثبت أنه هو الآتي الذي ينتظره المعمدان واليهود بل وكل العالم؛ فقد أجاب على سؤال المعمدان: «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» بالقول: «أخبرا يوحنا بما رأيتما (أعماله) وسمعتما (اقواله)» (لوقا9: 19-22). وقد سبق وتأملنا في جزء من أقواله (راجع سلسلة ينبوع في أمثال الرب يسوع)، وسنتأمل بمعونة الرب بدءًا من هذا العدد في بعض أعماله، لأن كل أعمال المسيح لو كتبت لا يسع العالم الكتب المكتوبة (يوحنا21: 25). لكننا سنمر في تأمل بسيط على بعض المعجزات المُسَجَّلة في الأناجيل الأربعة وعددها 35 معجزة.
بيانها في الأناجيل: ذكر متى 20 معجزة، وانفرد بذكر 3 منها. ومرقس 19، انفرد بذكر 2. ولوقا 20، وانفرد بذكر 6. ويوحنا 8، وانفرد بذكر 6.
أنواعها: 5 معجزات مرتبطة بالبحر، 12 معجزة شفاء مرضى، 3 معجزات إقامة موتى، 7 معجزات إخراج شياطين، 4 معجزات فتح أعين العميان، 3 معجزات تسديد احتياجات، ومعجزة قضاء واحدة.
الهدف منها: ما بين معجزة ميلاده ومعجزة قيامته كان طوال خدمته على الأرض: «يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس». ومن خلال معجزاته، المستحيلة بشريًّا، أثبت لاهوته وسلطانه على الرياح والبحر والإنسان (نفسًا وروحًا وجسدًا) والشيطان والأمراض والموت: «وأما هذه فقد كُتِبَت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه» (يوحنا20: 31). وسنبدأ بهذه السلسلة:
معجزات مرتبطة بالبحر
1. إسكات العاصفة (متى8: 23 27 ومرقس4: 35 41 ولوقا8: 22 25)
كان المسيح مع تلاميذه نائمًا - كإنسان - في السفينة، وأهاج الشيطان ريحًا شديدة، فكثيرًا ما نتعرض للتجارب من رئيس سلطان الهواء، لكن لا ننسى مَن وَعَدنا «إذا اجتزت في المياه فأنا معك» (إشعياء43: 2)، حتى لا نتهمه «أما يهمك؟». بل عند اشتداد العاصفة نصرخ إليه، فيقوم ويُظهر سلطانه ولاهوته ويأمر. فهو الذي جمع الريح في حفنتيه وصَرَّ المياه في ثوب (أمثال30: 4) فيخضع الكل له. ولنتيقن أنه يهمه أمرنا وانزعاجنا، وفي وقته يُهَدِّئ ما حولنا. فلنثق في كلمته، فمن قال للتلاميذ: «لنجتز إلى العبر» قادر على الوصول بهم. فمهما كان هيجان الشرير والأشرار وضعف إيمان الأبرار فالمؤمن لا يهلك!
2. السير فوق الماء (متى14: 22-33 ومرقس6: 45 53 ويوحنا6: 16-21)
في المعجزة السابقة كان الاضطراب عظيمًا وكان الرب معهم، وهنا عاصفة مُضَادَّة وهم وحدهم. المشهد أصعب ولكن:
أ) هو ألزمهم: جاء وقت السماح بالدخول في التجربة: «إن كان يجب تُحزَنون يسيرًا بتجارب متنوعة»، وفي محبته لا يسمح بآلام إلا لفائدة سنراها لاحقًا.
ب) هو رآهم: في السماء مُخَصِّص ذاته لأجلنا: «يشفع لنا» فبُعد السماء عن الأرض لا يبعده عَنَّا، بل يرى ويعلم ما يحدث معنا: «أنا أعرف أعمالك وضيقتك»، فلا نخَف!
ج) هو أتاهم:جاء وقت تدخُّل الرب، فلنصبر وننتظره، والبحر الذي يخيفنا سنراه تحت قدمي السيد.
د) هو كلمهم: أيَّة عذوبة لآذاننا وطمأنينة لقلوبنا عندما نسمعه يقول: «أنا هو»؛ الذي سمح، والذي يخضع له الكل، والذي يأتي عندما يشتد الظلام.
هـ) هو معهم: جَذفوا ليَصِلوا، ولم يحاولوا الرجوع؛ أي المؤمن لا يرتد، بل وصلوا إلى مقصدهم عند وصول الرب إليهم لأن من قال لهم: «لنجتز إلى العبر» لا بُد أن يعبر بهم ومعهم.
لماذا الإلزام؟ بعد معجزة إشباع الجموع - السابقة لهذه المعجزة - لم يسجد التلاميذ للمسيح، ولم يفهموا بالأرغفة، وظنوا أنهم فعلوا شيئًا. فكان لا بُد من النزول للبحر ليعلموا أنهم لا شيء، وليروا عجائبه في العُمق، ويسجدوا ويفهموا.
3. السمك الكثير (لوقا5: 1-11)
استخدم الرب سفينة بطرس الفارغة وعلَّم الجموع كمن له سلطان وليس كالكتبة، ثم أعادها له مملوءة عندما أمر السمك كمن له سلطان وليس كالصيادين. تمامًا كما كان له سلطان على حوت يونان (يونان2: 10).
أ) قدَّم بطرس سفينة خاوية لساعات، فأخذ سفينتين مملوئتين بسمك يحتاج أسابيع لصيده! عندما نقدِّم للرب شيئًا يستخدمه ليس لأنه محتاج بل ليباركنا: «ليس أني أطلب العطية بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم».
ب) عندما رأى بطرس ذلك ترك - هو ويعقوب ويوحنا وأندراوس - كل شيء حتى السمك الذي أعطاه الرب لهم وتبعاه.
ج) من صياد فاشل بسفينة فارغة، إلى سفينة مملوئة بالسمك، إلى صياد للناس، إلى رسول للمسيح؛ هذا اختبار بطرس وكل من يعطي نفسه للرب ويتبعه.
د) بدونه لا نقدر على صيد سمكة واحدة، لكن بكلمة منه نخرج بالكثير، فهل نقضي ليل غربتنا في تعب المحبة بدلاً من تعبنا في البحث عن سمكة، وإن وجدناها قد تكون ميتة؟!
4. السمكة والإستار (متى17: 24-27)
واحد من المشاهد التي تُظهِر لنا فقر ناسوت المسيح، وسلطان وعظمة لاهوته. فكيف افتقر وهو الغني لدرجة أنه لا يمتلك نصف إستار (أي قروش قليلة). ولكن في غنى محبته دفع عَنَّا جميعًا دينًا كبيرًا لعدالة الله.
لم يكن مضّطرًا لدفع فدية الكفارة (خروج30: 11-13)؛ لأنه هو الفادي وهو الكفارة لخطايانا. ولا دفعها كضريبة للهيكل، لأنه أعظم من الهيكل، بل هو الهيكل الحقيقي الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت، لكنه دفعها لكي لا يُحرِج بطرس ويُعثِر الآخرين. فهل نتنازل عن بعض حقوقنا مراعاة للآخرين؟
لكن هذا الناصري الفقير يخضع له السمك السالك في سُبُل المياه (مزمور8: 8)، فهنا ليس سلطانه فقط على السمك بل أيضًا معرفته بالسمكة وما في فمها وأَمَرها بإمساك سنارة بطرس، فما أعظمه إلهًا!
5. السمك المعروف – 153 سمكة (يوحنا21: 1-14)
آخر معجزة للمسيح أجراها بعد القيامة. لم ينتظر بطرس الرب في الجليل كما وعدهم وذهب ليتصيد وتبعه ستة من التلاميذ، وليس صدفة أن يهرب السمك منهم؛ فالذي أمره بالدخول إلى الشبكة قادر على منعه من دخولها. وكثيرًا ما نشبه التلاميذ ونفشل في حياتنا وخدمتنا لأننا لم ننتظر أمره بل نجري برأينا: «أنا أذهب»، أو نتبع غيرنا: «نذهب نحن أيضًا».
ولكن بعدما يبيت البكاء عند المساء يأتي الترنُّم مع إشراقة الرب في المشهد، فقد أتى بلطفه وغناه وقاد التلاميذ للاعتراف بفشلهم ثم ملأ شباكهم بالسمك، ثم جَهَّز لهم ما يلزم لدفئهم وإشباعهم. إنه الرب الذي رتب مائدة في القفر، وها هو يرتب مائدة علي البحر، فأينما وُجِد هناك يأمر بالبركة