بين النزول والانحدار

«انزل!»  ترددت هذه الكلمة كثيرًا في الأيام الماضية، تشجيعًا للناس على ”النزول“ من بيوتهم للمشاركة في المظاهرات التي جَرَت في مصر مؤخرًا.  كتبها بعضهم على اللافتات، وألصقها بعضهم على السيارات والمحال التجارية والمنازل، بينما عمل لها بعضهم أغنية تحث الناس على الإيجابية وعدم الاكتفاء بمشاهدة ما يجري في الشارع على شاشات التلفاز.  اعتُبر هذا النزول إلى الميادين وأماكن التظاهُر تعبيرًا عن الوطنية والاهتمام بأمور البلاد والرغبة في التغيير.  أما النزول في الكتاب المقدس فلَهُ عِدَّة مَعَانٍ:

1. الانتقال الجغرافي: من مكان مرتفع إلى مكان منخفض من ناحية تضاريس الأرض؛ من جبل إلى سَهل مثلاً (خروج34: 29؛ متى8: 1؛ لوقا9: 37) أو من ناحية ارتفاع مدينة ما عن مستوى سطح البحر إلى مدينة منخفضة (تكوين42: 2؛ 45: 9؛ لوقا2: 51؛ 10: 31؛ أعمال18: 22).

2. الحلول أو السكن في مكان ما لفترة مُعَيَّنة؛ قصيرة أو طويلة (خروج19: 2؛ لاويين19: 33؛ عدد2: 34).

3. نزول الله:
قد يكون تعبيرًا عن الاتضاع، وخصوصًا تَنَازُل ربنا يسوع المسيح ليأتي من السماء إلى أرضنا (يوحنا3: 13؛ 6: 38؛ أفسس4: 9‑10).  أو قد يكون تعبيرًا عن نزول الرب للقضاء: كما حدث في حادثة برج بابل (تكوين9)، «نَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا» وقال الرب: «هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ» (تكوين11: 5، 7).  وفي الضيقة سيصرخ الأتقياء من اليهود للرب في المستقبل: «لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ!» (إشعياء64: 1)، ونزول الرب حينها سيكون للقضاء وإبادة الأعداء وإقامة مُلكه بالبر والعدل.

4. النزول للحرب: ربما لأن الحروب قديمًا كانت تُجرَى في مواضع منخفضة (سهول أو وديان).  وقد تكرر تعبير “النزول للحرب” كثيرًا، خاصةً في العهد القديم (اقرأ مثلاً عن حروب شعب إسرائيل أيام القضاة ويشوع وأيام شاول وداود، إلخ).  وبناياهو بن يهوياداع؛ أحد أبطال داود، قيل عنه إنه «نَزَلَ وَضَرَبَ أَسَدًا فِي وَسَطِ جُبٍّ يَوْمَ الثَّلْجِ» (2صموئيل23: 20؛ 1أخبار11: 22).  وقال الرب لجدعون: «قُمِ انْزِلْ إِلَى الْمَحَلَّةِ، لأَنِّي قَدْ دَفَعْتُهَا إِلَى يَدِكَ» (قضاة7: 9).  وسأل داود الرب فأجابه: «قُمِ انْزِلْ إِلَى قَعِيلَةَ، فَإِنِّي أَدْفَعُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ لِيَدِكَ» (1صموئيل23: 4).  ويمكننا تطبيق هذا في حروبنا مع الأعداء الروحيين، فعندما يكون علينا “النزول للحرب” ونتقاعس عن ذلك، نحن بذلك نخسر كثيرًا ونُعَرِّض أنفسنا للتراجع عن ما امتلكناه من بركات هي أصلاً لنا في المسيح.

5. التكليف الإلهي: قد يُكلِّفك الرب بمُهِمَّة أو خدمة مُعَيَّنة تتطلب “نزولاً”؛ فربما تحتاج أن تتنازل عن راحتك أو عن مكانتك أو مكانك المفضَّل.  فعندما فَسَد الشعب وعملوا العجل الذهبي وكان لِزامًا على موسى أن يتعامل مع الموقف، قال الرب لموسى: «اذْهَبِ انْزِلْ!  لأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» (خروج32: 7؛ تثنية9: 12).  وكلَّف الرب إيليا: «قُمِ انْزِلْ لِلِقَاءِ أَخْآبَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فِي السَّامِرَةِ» (1ملوك21: 18؛ 2ملوك1: 15).

6. التدريب الإلهي:
قد يقودنا الرب للنزول لأنه يريد أن يُعَلِّمنا درسًا لن نتعلمه إلا هكذا.  قال الرب لإرميا: «قُمِ انْزِلْ إِلَى بَيْتِ الْفَخَّارِيِّ وَهُنَاكَ أُسْمِعُكَ كَلاَمِي» (إرميا18: 2).  وما أروع الدرس الذي تعلَّمه هناك!  وألزم الرب يسوع تلاميذه أن ينزلوا إلى البحر (متى14؛ مرقس6؛ يوحنا6)، وما لم ينزلوا ما كان لهم أن يروه ماشيًا على البحر الهائج والأمواج ووسط الرياح المُضادة والعاصفة.

7. الانحدار الروحي والأدبي: قد يكون النزول في بعض الأحيان تعبيرًا مجازيًّا عن انحدارنا روحيًّا.  وفي هذه الحالة يكون النزول بسبب اختياراتنا الخاطئة وليس لأن الرب يقودنا إليه؛ فهو لا يُجَرِّبنا بالشر (يعقوب1: 13)، مع أنه - في بعض الأحيان ومتى رَأَت حكمته ذلك - يستخدم نزولنا هذا ليُنَقِّي حياتنا ويجعلنا أكثر اتكالاً عليه.

يُحَدِّثنا الوحي عن أبرام، بعد أن ظهر له الرب وأكَّد له وعده بأنه سيُعطي لنسله هذه الأرض (كنعان) و«نَصَبَ خَيْمَتَهُ... وبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ»، حدث أنه «ارْتَحَلَ أبْرَامُ ارْتِحَالاً مُتَوَالِيًا نَحْوَ الْجَنُوبِ».  وأرسل الرب جوعًا في الأرض لعلَّ أبرام يرجع إلى مكانه، أما هو «فَانْحَدَرَ...  إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ لأَنَّ الْجُوعَ فِي الأَرْضِ كَانَ شَدِيدًا» (تكوين12: 7‑10).  ونعلم أن نزوله إلى مصر كان انحدارًا روحيًّا وأدبيًّا، لكن الرب ردَّ نفسه ورجع أبرام «إِلَى بَيْتِ إيلَ؛ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ خَيْمَتُهُ فِيهِ فِي الْبَدَاءَةِ بَيْنَ بَيْتِ إِيلَ وَعَايَ؛ إِلَى مَكَانِ الْمَذْبَحِ الَّذِي عَمِلَهُ هُنَاكَ أَوَّلاً.  وَدَعَا هُنَاكَ أَبْرَامُ بِاسْمِ الرَّبِّ» (تكوين13: 3‑4).

ويخبرنا الوحي أيضًا عن نزول إسحاق إلى جرار (تكوين26) وشمشون إلى غزة (قضاة14) ويونان إلى ترشيش (يونان1).  وهناك العديد من الأمثلة الأخرى، لكن هناك في التاريخ المُقَدَّس قصة مُهِمة أود أن أشاركك بها، صديقي القارئ، لعلَّها تكون درسًا لي ولنا جميعًا.

يُخبرنا الوحي عن الملك يهوشافاط أنه «سَارَ فِي طُرُقِ دَاوُدَ أَبِيه» و«طَلَبَ إِلَهَ أَبِيهِ وَسَارَ فِي وَصَايَاهُ» وكان الرب معه فثَبَّت «الْمَمْلَكَةَ فِي يَدِهِ» و«كَانَ لَهُ غِنًى وَكَرَامَةً بِكَثْرَةٍ» حتى كان «يَتَعَظَّمُ جِدًّا» (2أخبار17).  ولكنه بعد كل هذا «صَاهَرَ أَخَآبَ»!  وهكذا وضع الملك التقي نفسه «تحت نير» مع الملك الشرير.  وحدث بعد ذلك أن «نَزَلَ يَهُوشَافَاطُ مَلِكُ يَهُوذَا إِلَى مَلِكِ إِسْرَائِيلَ» (1ملوك22: 2)، وتورَّط في حرب ليست بحسب مشيئة الرب: «وَقَالَ أَخْآبُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِيَهُوشَافَاطَ مَلِكِ يَهُوذَا: أَتَذْهَبُ مَعِي إِلَى رَامُوتَ جِلْعَادَ؟  فَقَالَ لَهُ: مَثَلِي مَثَلُكَ وَشَعْبِي كَشَعْبِكَ وَمَعَكَ فِي الْقِتَالِ» (2أخبار18: 3).

صحيحٌ أن أخآب هو الذي أغوى يهوشافاط بالذهاب إلى راموت جلعاد ذابحًا «غَنَمًا وَبَقَرًا بِكَثْرَةٍ لَهُ وَلِلشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ».  ولكن يهوشافاط هو الذي نزل أولاً إليه إلى السامرة!  وعليه أن يتحمل مرارة نتائج النزول إلى ملك شرير جدًّا في عيني الرب.  ونعلم أنه كاد يُقتَل بواسطة رؤساء مركبات ملك آرام!  لكن الرب في رحمته أنقذه وحوَّلهم عنه وأعاده إلى أورشليم بسلام، لكنه وبَّخَه قائلاً: «أَتُسَاعِدُ الشِّرِّيرَ وَتُحِبُّ مُبْغِضِي الرَّبِّ؟!».  وردَّ الرب نفس مَلِكه، فرَدَّ هو شعبه إلى الرب وأمرهم أن يفعلوا «بِتَقْوَى الرَّبِّ بِأَمَانَةٍ وَقَلْبٍ كَامِلٍ» (2أخبار18؛ 19).

صديقي العزيز، إن القلب البشري «أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ» (إرميا17: 9)، وهو يميل دائمًا إلى الاستقلال عن الله وفِعْل إرادته الذاتية.  فعندما نحقق انتصارًا روحيًّا ويريحنا الرب من الأعداء بل ويمنحنا أيضًا «غِنًى وَكَرَامَةً»، علينا ألا نركن إلى الراحة والخمول.  فهذا سيؤدي بنا حتمًا إلى أن ننخرط في علاقات لا تُرضِي الرب، ثم نذهب إلى أماكن لا تُمَجِّد الرب، وبعد ذلك قد نتورط في غير أمور الله، ومن يدري؟!  فربما نَصِل أيضًا إلى الموت نفسه!

إن ما يحفظنا في حالة الرفعة والسمو هو أن نستمر في طلب المزيد، وما يجعلنا نستمر في الصعود ولا “ننزل” روحيًّا هو مزيد من الصعود.  ليحفظنا الرب في حالة الاتكال الدائم عليه لا على قلوبنا الخَدَّاعة!