قد تسمعها من طالب ثانوية غامة (بالغين!!)، يملأ أسبوعه بالدروس ويستهلك “تحويشة” والده من الفلوس، يعتمد خطأً على المدرس، ولا يجد وقتًا لمذاكرة المدروس، يتحمَّس في سبتمبر، ويتملّمل في فبراير، ويصرخ في مايو قبل الامتحانات قائلاً: يا مُسهِّل!
كلمة شهيرة في مجتمع مكتظّ بالصعوبات، من أول صعوبة الدراسة للإنسان إلى صعوبة المرور بأمان، وما بين قسوة المصاعب المختلفة، وما بين ما يخصنا نحن المؤمنين منها، علينا أن نتأمل قليلاً في كلمة: يا مُسهِّل!
“يا مُسهِّل” والنسبية!لا جدال أن في حياة كلاً منا أمورًا صعبة، تستدعي تنشيط العزم وتخزين الحماس لها، سواء كانت صعوبات مرحلية (الدراسة، العمل، الزواج، الشيخوخة)، أو صعوبات مجتمعية (المرور، التحرش، الاضطهاد، عدم الأمان)، أو حتى صعوبات نفسية (الوحدة، الغربة، المرض، الجرح العاطفي)؛ وكلها أمور صعبة يقف أمامها الإنسان حائرًا، وهو يدرك مدى صغره وعجزه، فلا يجد سوى أن يرفع عينيه لخالقه، ويستدعي الصعب الذي يقاومه، ويقول: “يا مُسهِّل”!
والحقيقة أن تصنيفنا للأمور، على أنها صعبة أو سهلة، هو أمر نسبي ومتغيّر؛ فالوحدة قد تكون صعبة عند إنسان وسهلة التكيف مع آخر، والجرح العاطفي قد يكون مدمِّرًا لحياة إنسانة ولكنه سهل التعامل مع أخرى، وقد تكون مادة معينة هي مكنون الصعوبة عند طالب الثانوية ولكنه عندما يدخل الجامعة قد يصطدم بمادة أخرى سيدرك أمامها أن الأولى كانت سهلة، والحفظ والتذكر يكون سهلاً جدًا في أيام الشباب والصبا ولكنه صعب جدًا في مراحل الشيخوخة والكهولة. إذًا فالصعوبة والسهولة هو أمر نسبي، فما هو صعب أمام الإنسان اليوم، قد يكون سهلاً أمام إنسان غيره، أو حتى يكون سهلاً أمام نفس الإنسان في وقت ما لاحق، وهنا نتساءل: هل الحياة المسيحية الحقيقية هي حياة سهلة أم صعبة أم تخضع أيضًا لقانون النسبية؟!!
“يا مُسهِّل” والحياة المسيحية!الحقيقية أن الإجابة على السؤال السابق، قد لا تُعجب بعض القرّاء الأعزاء؛ فالحياة الروحية التَقَوية هي حياة صعبة، وليست سهلة على الإطلاق، وهذا ما شهد به كل مؤمني الكتاب المقدس، لدرجة أن داود طلب من الرب صراحة أن يسهِّل له هذا الصعب، فصلى: «يَا رَبُّ، اهْدِنِي إِلَى بِرِّكَ بِسَبَبِ أَعْدَائِي. سَهِّلْ قُدَّامِي طَرِيقَكَ» (مزمور5: 8)، فقد اعتبر داود أن طريق الحياة مع الله هو أمر صعب جدًا، وقد امتلأ بكثير من الأمور المُكدِّرة والمُعيقة التي تجعله يستصعب هذا الطريق، ومنها الشر (ع4)، فاعلي الإثم (ع5)، المتكلمين بالكذب (ع6)، رجال الدماء والغش (ع7)، الأعداء (ع8)، المؤامرات (ع10)؛ ولهذا فقد طالب داود الرب في صلاته أن يستعمل نفوذه وإمكانياته في تسهيل هذا الطريق الصعب، ولسان حاله: “يا مُسهِّل”.
ونفس الأمر أدركه بولس في أخر أيامه وأخر رسائله، عندما ذكر أكثر من 20 صفة للناس في الأيام الأخيرة (يمكن للقارئ الإطلاع عليها في 2تيموثاوس3)، تكفي لأن تجعل واقع المؤمنين قمة في الصعوبة، ولخَّصها بولس في الكلمات «وَلكِنِ اعْلَمْ هذَا أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ» (2تيموثاوس3: 1).
أضف إلى هذا أن معاملات الله مع المؤمنين قد تكون صعبة الفهم في بعض الأوقات «لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ» (إشعياء55: 8)، وحتى كلام الرب قد يكون صعبًا في بعض الأحيان، خاصةً عندما يتكلم عن حساب النفقة (لوقا14: 28)، أو عن إهلاك النفس (متى16: 25)، أو عن الطريق الضيق (متى7: 13)، أو عن غيره من الكلام الذي يبدو منه أنه كان ينفِّر أتباعه أكثر من سرد المكافآت لجذبهم، لدرجة أن تلاميذ المسيح صارحوه في وقت ما وقالوا له «إِنَّ هذَا الْكَلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟» (يوحنا6: 60). والملخَّص أن المؤمنين يعيشون في أزمنة صعبة ويتعاملون مع ناس صعبة، وفي داخلهم طبيعة قديمة صعبة، وقد يعاملهم الرب بمعاملات صعبة، وكل هذا يستدعي الصراخ اليومي: يا مُسهِّل!!
“يا مُسهل” والعُلو!والحقيقة أن كثير من المسيحيين يجهلون صعوبة الحياة الروحية، فيفرِّطون في الجهاد ويستسلمون للإجهاد، ولكن الحل ليس أن نستسهل الصعب، ولكن أن نستخدم إمكانيات الله لنا لنعلو فوق الصعب؛ فالله في نعمته أجزل لنا إمكانيات هائلة تجعلنا نعلو أي صعب يواجهنا أو يعيقنا في الحياة معه، فأعطانا الروح القدس الذي يعلِّمنا أفكاره «رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ» (يوحنا16: 13)، وبالتالي ظل الكلام الصعب والمعاملات الصعبة كما هي، ولكن أرسل الله داخلنا مُفسِّر وشارح ومُرشد في منتهى التمكّن والاقتدار.
ولقد طمأننا الرب يسوع أنه بنفسه يجتاز معنا في هذه الأزمنة الصعبة حين قال «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يو16: 33)، فنختبئ في حنانه إذا لوَّحتنا شمسها،ونستدفئ بحنانه حين تصدمنا مفاجآتها. ولهذا فحري بنا أن نهتف مع بطرس «أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى» (2بطرس1: 3). وبالتالي، علينا ألاّ تكون لغتنا هي الاستسلام والانهيار، ولكن لغة الثبات والانتصار «وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رومية8: 37).
عزيزي القارئ.. دعنا نعترف، أنا وأنت، أن الحياة المسيحية الصحيحة هي صعبة، ودعنا نعترف أننا لا نقوى على أي من تفاصيلها الصغيرة بأنفسنا، بدءًا من مكالمة افتقاد صغيرة أو حوار هامشي مع مؤمن، إلى أصعب الأمور التي نواجهها؛ فلا مجال للاعتماد على أي شيء فينا؛ لأن سر قوتنا هو في إدراكنا لضعفنا، وسر تمتعنا بالحياة ولذّتها، هي في استخدامنا اللحظي لإمكانيات الله “المُسهِّل” الهائلة لحسابنا، والتي تجعلنا نعبر البرية الصعبة، بدون أن تترك علينا أي من آثارها.
باعترف إن الحياة معاك صعبة في أوقات كتير
وإن التقوى نادرة، وجبل البِرّ قُدامي عَسير
بس انت عامل لكل ده حساب بحكمتك
ومدعَّمني بإمكانياتك وروحك وكلمتك
وبتعلّيني فوق أي صعب بفضل سندتك
علّمني أتّكل عليك، في الصغير قبل الكبير
وافهم قوتي في لاشيئيتي، فتسهل قدامي المشاوير