الحرب الروحية وأعداء المؤمن (الجسد)
تحدثنا في الأعداد السابقة عن الحرب الروحية وأعداء المؤمن وبدأنا بالعدو الأول وهو الشيطان، ثم تناولنا العدو الثاني وهو العالم، والآن نأتي إلى العدو الثالث وهو الجسد.
ما المقصود بالجسد؟الكلمة، في اللغة العربية، تأتي بمعنيين في الكتاب؛ المعنى الأول هو جسم الإنسان أي اللحم والدم، الأعضاء التي نستخدمها ونتحرك بها. هذا هو المعنى الحرفي والمادي للجسد (The body)، فالإنسان كائن ثلاثي، روح ونفس وجسد. وبالطبع ليس هذا هو العدو الذي نحتاج أن نقمعه ونقهره، فهذه الأعضاء تُستخدم كآلات بر لله، وبها نخدم الله ونمجده. والكتاب يقول: «لم يُبغض أحد جسده قط بل يقوته ويُربيه» (أفسس5: 29)، أي يعتني به ويُطعمه
ويُدفئه ويُدلِّله. والكتاب حذَّر من التعاليم الفاسدة التي تتعامل مع الجسد المادي باعتباره مصدر الشر، ومن قهر هذا الجسد وإذلاله (كولوسي2: 23).
أما المعنى الثاني لكلمة الجسد (The flesh) فتعني الخطية الساكنة فينا، أو الطبيعة القديمة الموروثة من آدم بالولادة الطبيعية. إنها النبع الفاسد الذي يُنتج كل الخطايا والشرور. هذا ما قاله الرب يسوع: «من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى، فسق، قتل، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتُنجس الإنسان» (مرقس7: 21-23). وهذا ما قاله داود بعد خطيته الشنيعة: «هأنذا بالإثم صورت، وبالخطية حبلت بي أمي» (مزمور51: 5). فقد فهم أن ما فعله (الزنى والقتل) نبع من الخطية الساكنة فيه، وأن الشهوة كامنة في أعماق كيانه، وأن هذه الشهوة موجودة فيه بالولادة الطبيعية، بالوراثة. لهذا صلى قائلاً: «قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدِّد في داخلي» (مزمور51: 10). فقد كان يدرك أن المشكلة الحقيقية في القلب الذي منه مخارج الحياة. وهذا ما نقرأه في سفر إشعياء: «فإني علمت أنك تغدر غدرًا، ومن البطن سُمِّيتَ عاصيًا» (إشعياء48: 8). وهذا ما أكده الرسول بولس في العهد الجديد بقوله: «الذين نحن أيضًا جميعًا تصرفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا، عاملين مشيئات الجسد والأفكار، وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين» (أفسس2: 3). وأيضًا: «إن كنت أفعل ما لست أريده (بالطبيعة الجديدة)... فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة فيَّ. فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح... أرى ناموسًا آخر في أعضائي (الجسد أو الطبيعة القديمة) يحارب ناموس ذهني (الطبيعة الجديدة المولودة من الله)، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي» (رومية7: 15-23). فهو يُميِّز بوضوح بين رغبات الطبيعة الجديدة المقدَّسة والتي تولَّدت في كيانه بالولادة الروحية الجديدة من الله، وبين رغبات الطبيعة القديمة الأصلية الموروثة من آدم بالتسلسل الطبيعي. وهذه الطبيعة لا تتغير ولا تتحسن مع الزمن كما قال الرب يسوع: «المولود من الجسد جسد هو» (يوحنا3: 6).
إن الطفل الذي يولد في العالم هو روح ونفس وجسد، ويحمل في داخله كيانًا أدبيًا فاسدًا هو طبيعة الخطية الموروثة من آدم التي تُسمَّى ”الجسد“ أو ”الخطية الساكنة“. هذه الخطية أو البذرة الموروثة تجعله خاطئًا من بداية تاريخه في العالم وقبل أن يعمل أي شيء. إنه خاطئٌ بالطبيعة وليس بالأفعال. فالإنسان يخطئ لأنه خاطئٌ أصلاً بالطبيعة، وليس خاطئًا لأنه يخطئ!
ويجب أن نعرف أن هذه الطبيعة القديمة أو الجسد الفاسد هو واحد في كل الجنس البشري من حيث الأصل والمصدر، في الخاطئ أو المؤمن، سواء فعل الشخص الخطية أو لم يفعلها. فالرغبة والشهوة نحو الخطية موجودة في كل إنسان، وإنما الفرق هو في رد فعل الإنسان وتجاوبه مع هذه الرغبات طبقًا للتكوين الشخصي والنفسي، والظروف المحيطة، والأسرة، والتربية، والمجتمع، والكنيسة، والتقاليد، والقوانين التي تحكم بين الناس، ... الخ. وإذا أُتيحت الفرصة للإنسان، واطمأن من جهة النتائج والتبعات، فهو على استعداد أن يفعل أي شيء، وكل ما لا يليق. هذا ما يعلنه الكتاب.
عندما سقط الإنسان الأول وكسر الوصية الإلهية، حدثت فيه تغيرات وتشوهات كبيرة وخطيرة لم تخطُر قَطّ على باله، ليس على نفسه فقط، بل على كل الجنس البشري من بعده عبر كل تاريخ البشرية. هذه التشوهات الرهيبة يستحيل إصلاحها. فقد صار «كل الرأس مريض وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة، بل جرحٌ وأحباطٌ وضربةٌ طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُليَّن بالزيت» (إشعياء1: 5،6). هذه الطبيعة الفاسدة بهذا الشكل يستحيل أن ينبع منها أي عمل صالح يكون مقبولاً ومرضيًا لدى الله. وهذا ما أوضحه الرب بقوله: «هل يجتنون من الشوك عنبًا أو من الحسك تينًا؟ ... لا تقدر شجرة ردية أن تصنع أثمارًا جيدة» (متى7: 16-18). لهذا أيضًا قال الرب يسوع: «ينبغي أن تُولدوا من فوق» (يوحنا3: 7).
وعندما يولد الإنسان من فوق، ولادة روحية من الله، فهو يحصل على طبيعة جديدة روحية هي ذات طبيعة الله الأدبية، وفيها كل الرغبات والأشواق المقدسة التي تتناسب مع الله. هذه الطبيعة تتميَّز بالمحبة والبر، لأن الله محبة، والله نور وليس فيه ظلمة البتة. ومن هذه الطبيعة ينبع الخير والصلاح المقبول لدى الله، إنها الشجرة الجيدة التي تصنع أثمارًا جيدة.
وهكذا نرى أن المؤمن الذي وُلد من الله امتلك طبيعة جديدة إلى جانب الطبيعة القديمة الموروثة من آدم، ولم تتغير طبيعته. ومن هنا ينشأ الصراع بين الطبيعتين في المؤمن. وبالإضافة إلى ذلك، فقد سكن فيه الروح القدس. وإن كانت الطبيعة الجديدة تُعطي للمؤمن الرغبة والطاقة والإمكانية للهروب من الفساد والشر ولصنع الخير والبر، فإن الروح القدس يعطيه القوة للتنفيذ ولرفض رغبات الجسد.
ويظل الصراع قائمًا بين الجسد الذي يشتهي ضد الروح، وبين الروح الذي يقف ضد الجسد ويتصدى له، طالما نحن هنا على الأرض.
وفي الأعداد القادمة بمشيئة الرب سنتناول الحديث عن الجسد وخصائصه وكيفية الانتصار عليه في حربنا الروحية.