ما أسهل السباحة في اتجاه التيار؛ فقوته تحمل الجسد وتدفعه دون جهد. كما أن القارب الشراعي الذي يبحر في اتجاه الرياح الشديدة يشق صفحة المياه فينطلق مسرعًا، كذلك الإنسان بالطبيعة، يندفع في إتجاه التيارات الجارفة سواء الاجتماعية أو السياسية أو الدينية. فالسير مع التيار لا يكلِّف الإنسان مشقة التفكير أو عناء المقاومة. الإنسان الذي يسلك ”سلوك القطيع“ يبني قراراته على توجّهات الأغلبية من حوله وتذوب إرادته في إرادة الآخرين. هذا السلوك أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ”جوستاف لوبون“ ”ثقافة الحشد أو سيكولوجيا الحشد“. وهي شائعة في المجتمعات البدائية حيث تجد الواحد يتكلم في الموضوع الذي يشغل بال الأغلبية ويردد ما يقولونه، ويتمنى ما يتمنونه، حتى صار يتذوق أيضًا بحاستهم؛ يثور عند ثورتهم ويبتهج عند نشوتهم.
في مهب التيار
ما أكثر التيارات الشديدة التي يواجهها الشباب المسيحي هذه الأيام! سواء المتعلقة بالتوجهات السياسية أو الهجرة للخارج أو فرص العمل المغرية أو استخدام شبكات التواصل الاجتماعي عن قناعة بالمنفعة أو لمجرد التسلية، بل وتيارات تتعلق بمجال العبادة والخدمة أيضًا. لا أقصد أن كل هذه التوجهات خاطئة في حد ذاتها، لكن الخطأ أن تنساق وراء آخرين دون أن تمتحن دوافعك في نور حضرة الرب وتراجع تفاصيل سلوكياتك جيدًا، لتتأكد: إن كان يليق أن تتصرف هكذا أم أنك تحت تأثير الآخرين، إن كان يناسبك هذا الأمر أم يناسب غيرك. من الخطر الشديد أن يكون المؤمن محمولاً ومدفوعًا بالتيارات الجارفة حتى لو كان روادها من المؤمنين الآخرين أو كانت متعلقة بأنشطة أو خدمات مسيحية. قد يكون الأمر صحيحًا ونافعًا لكن ليس هو الأسلوب الذي يريدك الرب أن تتبعه. فالأعمال النافعة كثيرة ومتنوعة. مثلاً فيما يتعلق باستخدام الإنترنت، فالخطأ ليس في المادة أو التكنولوجيا في حد ذاتها لكن في الإسراف أو سوء إستخدام الإنسان لها أو عدم ملاءمتها لخدمته وأسلوب حياته. فقد يخدم شخص ما من خلال شبكات التواصل الإجتماعي خدمة ناجحة ومثمرة إنما ليس بالضرورة أن تفعل نفس الشيء كي تنجز ما أنجزه أو تنال ما يناله من تعليقات المدح والإطراء. اتبع ما يقودك الرب أن تفعله، وليس ما هو شائع. كُفّ عن أن تكون نسخة متكررة من الآخرين. صلِّ واصغِ جيدًا لصوت الرب، بعيدًا عن تأثير الأصوات المرتفعة الأخرى. قد يريدك الرب أن تفعل شيئًا غير مألوف، لكمه أوفر إثمارًا وأكبر تأثيرًا. وعندما أشجعك أن لا تسير مع التيار السائد لا أقصد أبدًا أن تتبع المثل القائل ”خالف تُعرَف“. فالتميز ليس في ”الاختلاف“ ذاته، بل في وقوفك بغيرة مقدسة في صف الرب عن قناعة ويقين بضمير صالح مهما كانت توجّهات الآخرين.
لم يجرفهم التيار
أيها الشاب التقي تقوَّ بنعمة الرب، ولا تترك التيارات السائدة تحدِّد شكل ملابسك أو مواضيع أحاديثك أو نوعية علاقاتك ومجال خدمتك ونشاطك، بل اثبت على ما تعلمته من كلمة الله واقتدِ بالأمناء في أسفار الكتاب، الذين بالإيمان رفضوا الانجراف في تيارات الآخرين، كما فعل موسى (عبرانيين11: 24، 25)، ويشوع (يشوع24: 15)، ودانيآل (دآنيال1: 8) وعزرا ونحميا وبولس وغيرهم. فكل منهم أخذ موقفًا مغايرًا للأغلبية في جيله؛ لأنهم جعلوا الرب أمامهم وحوَّلوا أنظارهم عن الآخرين، مهما كانوا، وتمسّكوا بالوقوف في صف الرب ضد أي شيء عداه. يعوزنا الوقت إن تأملنا أيضًا في مواقف الأمناء في تاريخ الكنيسة مثل أثناسيوس ولوثر وداربي، وغيرهم من الذين وقفوا بإصرار مقدَّس أمام تيارات جارفة، لم يتشدّدوا من أجل مصلحة شخصية بل كانت صلابتهم وثباتهم تكمن في غيرتهم المقدسة على مجد الله.
تشويه الصورة
تذكر أن من يحشر نفسه في سرداب المحاكاة والذوبان في الآخرين يغمض عينيه عن عظمة ما أبدعته يد القدير في تكوين شخصيته وتحديد أسلوب حياته وخدمته. تذكَّر أن الرب قصد أن تكون متميِّزًا ومختلفًا، وقد وهبك ما يساعدك أن تحقق به الغرض الإلهي من حياتك في هذا الجيل وهذا المكان على وجه التحديد. وقد يحقق الله ذلك القصد من خلال حياة فيها اشتهار أو استتار، بمواهب فائقة أو ظروف شائكة. إن الانزلاق نحو ثقافة الحشد وتوجّهات الأغلبية يُطفئ المواهب ويقوِّض الطاقات، والانصهار المسرف في سلوكيات الآخرين هو قتل للشخصية الأصلية وتمرد دفين وتجاهل للتفرد الثمين الذي قصدته الحكمة الإلهية. إن الظروف التي تجتاز فيها، والناس الذين تتعامل معهم، والمواهب التي أعطاها الرب لك، والزمن الذي تعيش فيه، والأماكن التي تتواجد فيها، كل ما سبق ليس سوى عناصر متعددة في منظومة واحدة متفردة من صنع الإله الحكيم.
ثابت كالصخرإن انجذبت لفكرة يتبناها الآخرون ثم ضربك قلبك بعدها، اقتلع الفكرة من جذورها. إن ذهب أحد من رفقائك إلى هنا، وذاك إلى هناك، ولم يسترِح ضميرك فلا تتحرك من مكانك. صلِّ للرب أن يقدِّس دوافعك ويعطف قلبك؛ فتتجاوب معه حينما يحرِّكك وحينما يستوقفك. تمسَّك بأسلوب الحياة الذي ميَّزك الرب به، ولا تُحاكِ أحدًا، ولا تقبل أن تكون قصبة تحرِّكها الريح؛ بل كن راسخًا كالجبل، ولا تهتز أمام ميول ذاتك أو رغبات غيرك. إن دُعيت لمشاركة في حدث أو نشاط، ثم شعرت أنك وافقت على سبيل المجاملة أو التجربة، فلا تقبل أن تقضي بقية حياتك بلا رؤيا أوهدف يلهب قلبك ويلهم فكرك ويزيدك حبًا للرب وتكريسًا له. تواضع أمام الرب، كن بسيطًا وحقيقيًا، واقبل ما يقسمه لك، وأطِع سيدك الوحيد، وأعطِه الفرصة أن يسود على كل تفاصيل حياتك. ولتكن إبتسامة رضا الرب هي مرادك، لا تستقي النشوة من مديح الناس وتعليقاتهم المعسولة، فمدة صلاحيتها دقائق معدودة، أما وجودك في دائرة مشيئته فبركاته للأبد.