تنافس شابان متغربان، ينتميان إلى أسرة غنية، في ماذا يقدِّمان لأمهما في عيد الأم؟ وكانا في حيرة، فهما يريدان أن يقدما أفضل شيء للأم الغالية، أخيرًا، سمع أحدهما عن طائر جميل يمكنه أن يتعلَّم خمس لغات، فاشتراه، وكان ثمنه غاليًا جدًا، واشترى أيضًا بطاقة تهنئة جميلة كتب عليها الابن أجمل وأرق العبارات، وأرسلها إلى أمه. مضى وقت طويل، وانتظر أن يسمع من أمه شيئًا، أو يستلم منها مكتوبًا، لكن للأسف لم يحدث شيء من كل ذلك، أخيرًا اتصل بأمه، وهنّأها بالعيد، وقال لها:
- هل استلمت هديتي يا أماه؟
- أجابت: نعم يا ولدي وأشكرك جدًا على الكارت والكلمات الرقيقة التي عليه.
- ثم أردف الشاب قائلاً:
- وهل أعجبك الطائر يا أماه؟
- أجابت: نعم يا ولدي أعجبني جدًا، فطعمه طيب، ولحمه لذيذ.
صُدِم الابن صدمة عنيفة جدًا، فالطائر الذي كلَّفه آلاف الجنيهات، والذي في إمكانه تعلم خمس لغات، والذي اشتراه بغرض تسلية أمه وشغل وقت فراغها، عسى أن تجد فيه ما يسرها ويسعدها؛ لكنها للأسف ذبحته وأكلته، ولم تقدِّر قيمته!!
قارئي العزيز وقارئتي الفاضلة: تعلّمت من هذا الخبر الطريف درسين مهمين أنقلهما لك:
أولاً: أنه من الواجب علينا نحن الأبناء أن نقدِّر أمهاتنا ونهتم بهن، لا في يوم واحد من العام، بل في كل العام وعلى الدوام، فمهما عملنا سنظل مدينين لأمهاتنا. وهل ننسى الرب يسوع، عندما كان يتألم ويقاسي وهو معلَّق فوق الصليب، ورغم ذلك لم ينسَ أمَّه المطوَّبة مريم، بل راح يوصي تلميذه المحبوب يوحنا قائلاً: «يا يوحنا: هوذا أمك». أي ارعَها واهتم بها كما لو كانت أمك.
ما من شك في أن الأم غالية، فكم تعبت عندما حبلت بنا، وكم تعبت في ولادتنا، وتربيتنا. كم سهرت الأم وكم أطعمت، كم مرة طلبنا منها أن تقوم من نومها لتسقينا، ربما مئات بل وآلاف المرات؛ فتقوم لتلبي احتياجاتنا في البرد أو في الحر، في الليل أو في النهار، ولم تَملّ منا أبدًا. فكم مرة بلطف وحب وحنان قدَّمت لنا الدواء عندما نمرض، كم غسلت وطبخت واحتملت وكم عانت... لذا علينا أن نهتم بأمهاتنا ونردّ لهن الجميل في حياتهم لا بعد وفاتهم. يقول مثل إنجليزي ناصحًا الأولاد لإكرام والديهم: “لا تقدموا باقات الورود لأبائكم وأمهاتكم عند موتهم وفي جنازاتهم، بل قدموا لهم الورود في حياتهم”. أي نفتقدهم ونزورهم ونجلس معهم ونسمعهم، وخاصة عندما يكبرون ويشيخون، علينا أن نحتملهم عندما ينسون ولا يتذكرون، وإن كرَّروا نفس الأسئلة ونفس الحكايات لا نزجرهم أو ننتهرهم، حتى لا نندم مثل بعض الأبناء الذين يستفيقوا، لكن للأسف بعد فوات الأوان، إذ يأتون لزيارتهم متأخرين جدًا حتى يلقوا نظرة الوداع الأخيرة، فيشترون لهم أغلى الصناديق، وربما يقدموا باقات من أجمل الورود وأطيبها، لكن للأسف لا يستفيدون منها، ولا يشتمون عبيرها، أو يسعدون بمنظرها.
يقول الكتاب: «أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض» (خروج20: 12).
وأيضًا يوصي الأولاد والحفدة
أن يتعلموا أن يوقِّروا أهل بيتهم ويوفوا والديهم المكافأة. لأن هذا صالح ومقبول أمام الله» (1تيموثاوس5: 4).
وما أخطر ما قاله الحكيم في كتابه: «الْعَيْنُ الْمُسْتَهْزِئَةُ بِأَبِيهَا، وَالْمُحْتَقِرَةُ إِطَاعَةَ أُمِّهَا، تُقَوِّرُهَا غُرْبَانُ الْوَادِي، وَتَأْكُلُهَا فِرَاخُ النَّسْرِ» (أمثال30: 17).
ثانيًا: إن كانت الأم لم تقدِّر عطية ابنها العزيز،
فنحن أيضًا أحيانًا لا نقدِّر عطايا الرب لنا. لقد أنعم الرب علينا بعطايا ما أسماها، لكن المؤسف هو عدم تقديرنا لها. لقد منحنا الحب لنمارسه في مكانه وزمانه الصحيح، لكن قد نسيء استخدامه فيصبح شهوة. لقد منحنا مشاعر الغضب لنثور على الشر ونرفضه، ولكن قد نسيء استخدامها فنثور ونغضب على إخوتنا ونفقد سلامنا الداخلي. لقد أعطانا مشاعر الخوف لكي نهرب من الفساد ومن الشر، لكن قد نسيء استخدامه فنسقط في الشر ونحطم أنفسنا ونهلكها. فما أكثر الذين يسيئون استخدام عطايا الله المتعدِّدة والكثيرة.
على أن العطية التي لا يُعبَّر عنها هي المسيح نفسه، والذي منحنا عطايا ما أحوجنا إليها؛ فدعونا نقدر:
(1) الراحة التي يهبها لنا المسيح بوعده الكريم: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى11: 28).
(2) الغفران الذي يقدِّمه لنا المسيح: «الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، ﭐلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ» (أفسس1: 7 8).
(3) والخلاص الذي هو بواسطة المسيح: «وَليْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال4: 12).
(4) والسلام الذي يعطيه المسيح: «سلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ» (يوحنا14: 27).
(5) بل والحياة التي يمنحها المسيح: «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي» (يوحنا10: 27-28).
سيدي هبني تقديرًا لعطاياك
وأعطني أن انعم بحبك وغناك
وأهنأ بكل ما منحتي يداك
حتى أتمتع بحياة في رضاك