تُسمّى هذه اللقطة، بصورة العازف الحزين. وهي صورة للطفل البرازيلي دييكو فرازاو توركاتو. وقد نشأ هذا الطفل الرقيق في بيئة فقيرة جدًا، وفي جو من الإجرام العنيف؛ حيث مشاهد السرقة والقتل والإدمان وغيرها من الأعمال الإجرامية التي تشتهر بها تلك المناطق. وكان من الطبيعي أن يصبح هذا الطفل سارقًا أو قاتلاً أو مدمنًا للمخدرات. إلا أن مسار حياته اختلف تمامًا بعد أن تبناه أحد أشهر عازفي الكمان في ذلك الوقت. وربما تسأل: لماذا يبكي هذا الطفل وهو يعزف في هذه اللقطة الشهير؟ والإجابة هي أنه كان يعزف في جنازة ذلك المعلم الذي أنقذه من الضياع، وأول مَن علمه العزف على آلة الكمان. كان يودِّع مثله الأعلى إلى مثواه الأخير بالدموع، مع نغمات الكمان الحزينة. وقد الُتقطت له هذه الصورة أثناء الجنازة وصُنفت كأكثر اللقطات إثارة للمشاعر في التاريخ الحديث.
أما عن بقية قصة دييكو، فقد كان يُعاني منذ الصغر من عدة أمراض ومنها الإلتهاب السحائي، لكن هذا لم يُفقده حماسه في العزف، وقد كان مشاركًا في فرقة أوركسترا كانت تعزف لجمع التبرعات لمكافحة سرطان الدم، ومكافحة دخول الشباب إلى الجماعات الإجرامية في البرازيل.
وفي عام 2010 قاد فرقته الموسيقية للفوز بجائزة صحفية شهيرة، لكنه مات في ذات العام متأثرًا بمضاعفات عملية أجريت له، ليتوقف قلبه عن النبض وهو في سن الثانية عشر. وبعدها أكمل أصدقاؤه مشواره في التخفيف عن مرضى سرطان الدم، وإنقاذ الشباب من السقوط في بئر الإجرام. مات دييكو لكن صورته بقيت لتعبِّر عن مشاعره الرقيقة وإحساسة المرهف.
قصة مؤثرة، وأحداثها درامية، وربما فعلت مثلما فعلت أنا؛ حيث كنت من وقت لآخر وأثناء قراءتي للقصة، أتطلع للصورة. متأملاً في وجه ذلك الفتى الرقيق، متأثرًا بدموعه، وأتخيل كيف كانت مشاعره في تلك اللحظات، فأول من أمسك بيديه ووضعها على أوتار الكمان، وأول من أنقذة من هوة الشر، ومستنقع الفساد والفقر؛ لن يراه مرة أخرى، لن يتحدث إليه، ولم يعد بمقدوره أن يجلس معه، أو يشكو له ما يضايقه. ربما كانت دموعه المنسابة على وجنتيه سببها أن مدرِّبه ومعلِّمه، لا يسمعه وهو يعزف، لن يصحح له أخطاءه، أو يربت على كتفه مشجِّعًا كما اعتاد منه بعد كل احتفال. مشاعر متضاربه، وأحاسيس متباينة كانت تتصارع في عقله، وتُترجَم لدموع تنساب في هدوء حزين على وجنتيه. ولنا في هذه القصة درسين أرجو أن يتركوا في حياتنا أثرًا عميقًا يدوم طويلاً.
* المحبة الحقيقية، والإنقاذ من الخطية
لقد شعر دييكو بمحبة معلِّمه له، ومع مرور الأيام – بالتأكيد - عرف أنه لولا هذا الرجل لكان الآن مصيره كمصير الكثيرين من بني جيله الذين لم يجدوا من يهتم بهم، أو يحبهم، أو يرعاهم. هذه المحبة التي أنقذته من مستقبل مرير، ومصير خطير كان يسير نحوه لا محالة. إنه صورة مصغرة وباهتة جدًا لما فعله معنا إلهنا العظيم «الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا» (كولوسي1: 13، 14). فقد كان الجحيم الأبدي هو مصيرنا المحتوم، لكن جاء المسيح إلينا فاديًا ومنقذًا إيانا من وهدة الهلاك، ضامنًا لنا طريقًا أفضل، وأبدية سعيدة معه في السماء. كنا حيارى تائهين في طريق مظلم، فجاء المسيح و«أَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيل» (2تيموثاوس1: 10). بل كنا هالكين بسبب جُرمنا وخطايانا فأتى المسيح «لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا19: 10). هل نقدَّر أعزائي هذا العمل العظيم؟ هل نقف أمام صليب المسيح بتقدير وإجلال واحترام؟ هل نذكر هذا الأمر فنسجد أمامه، لنعطه الإكرام الذي يستحقه؟ هل نشتاق للجلوس في حضرته للتمتع بمحبته وعمل صليبه؟
كم نحتاج لمراجعة أنفسنا كثيرًا في هذا الأمر، ليعطنا الرب تقديرًا لعمله، ويملأنا بمحبة حقيقية لشخصه، فلا نطلب ما لأنفسنا بل ما يرضيه ويشبع قلبه.
* المحبة الحقيقية، عدوى إيجابية
فمثلما اختبر دييكو المحبة الحقيقية من معلمه ومثله الأعلى، نجده بعد ذلك يعيش حياته حتى الموت في خدمة الآخرين، ويتعب ليريح الآخرين. عاش لآخر لحظات في حياته وهو يُنقذ الشباب من طريق الموت، وحياة الإجرام. عاش حياته بهدف أن يخفف آلام المتألمين، ويُسّكن أوجاع المتعبين. لم يفعل ذلك لأجل نفسه، أو حتى لأجل معلمه؛ إنما كان يفعل ذلك لأنه اختبر قوة تأثير المحبة الحقيقية، وعرف أنها تفعل ما تعجز كل المؤسسات، والهيئات، والكتب التثقيفية، والتعاليم الإنسانية، والمصحات النفسية على فِعِله. فقدَّم حُبًّا للنفوس، وبذل حياته في خدمتهم.
ولكل من اختبر محبة المسيح الحقيقية، وعمله العجيب على عود الصليب. نقول: ماذا قدمت للنفوس المتعبة؟ وما الذي يشغل وقتك وتفكيرك؟ وفي أي شيء تبذل طاقتك، وتستثمر وقتك، وتحيا حياتك؟
إن كنت قد اختبرت حقًا محبة المسيح، وإن كنت قد ذقت نعمة الله في حياتك، فلا بد وأن يكون قلبك ملتهبًا على النفوس المتعبة، وكل غرضك أن تأتي بهم للمسيح ليتمتعوا بما تمتعت به من فرح وسلام وراحة. شاول الطرسوسي، الذي صار بولس الرسول بعد ذلك، اختبر محبة المسيح العجيبة؛ فلم تكن نفسه ثمينة عنده (أعمال20: 24) وبذل كل حياته حتى نهايتها في خدمة السيد، مُحِبًّا وباذلاً نفسه في خدمة الجميع، وفي البحث عن الخطاة، التعابى، المساكين. حتى أنه يقول عن رحلة خدمته والآلام والصعوبات التي تكبدها في خلال هذه الرحلة: «خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلاً وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ» (2كورنثوس11: 24 27).
ليتنا نُقّدر عمل المسيح ومحبته لنا، ويكون لنا الغرض والهدف الأسمى للحياة؛ أن نذهب لأجل النفوس، وننقذهم من طريق الظلمة، ومصيرهم الأبدي التعيس.