تعجبت جدًا وأنا أقرأ الحوار الذي دار بين بلعام العراف وحمارته!!
قد تندهش أن الحماره تتكلم.. ولكنك ستندهش أكثر حينما تستمع إلى إسلوب الحمارة الرقيق وهي تردّ على هذا “العرَّاف” الذي يصرخ فيها بكل قساوة وشراسة!! وسأتركك قارئي لتحكم من يا تري أكثر رقة فيهما؟!!
تابع معي هذا الحوار:
بلعام: «لَوْ كَانَ فِي يَدِي سَيْفٌ لَكُنْتُ الآنَ قَدْ قَتَلْتُكِ»!! يا للشراسة!!
والحمارة ترد على بلعام قائلة: «أَلَسْتُ أَنَا أَتَانَكَ الَّتِي رَكِبْتَ عَلَيْهَا مُنْذُ وُجُودِكَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ؟ هَلْ تَعَوَّدْتُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ هكَذَا؟» فيا للرِّقة!! (راجع القصة في سفر العدد22: 21 30).
ألا تندهش معي قارئي الكريم من رقة هذا الحيوان، ومن شراسة ذلك الإنسان؟!
هذا هو حال الإنسان البعيد عن الله. لكن شكرًا للرب أنه يعطي فضيلة جميلة لمؤمنيه، ألا وهي رقَّة الطباع واحترام مشاعر الآخرين.
لماذا لا يقدر الكثيرين منا مشاعر الآخرين من حولهم؟
1. لإن بداخل الكثيرين منا ضيقًا وضغوطًا، بل والبعض لديهم متاعب نفسية. وللأسف، أحيانًا لا يجد هؤلاء منفسًا لهذا الضيق، إلا بتفريغه في الآخرين سواءً كان بسخرية لاذعة أو بكلام جارح، يؤذي حتمًا مشاعر من حولهم.
2. بسبب الخطية أيضًا، تحوَّل الإنسان إلى كائن أناني بطبيعته، يدور حول نفسه، فلا يهمه الآخر، ولسان حاله، نفسي والطوفان من بعدي!! وهذا ما عبَّر عنه الكتاب «إِذِ الْجَمِيعُ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ» (فيلبي2: 21).
3. كما أن القلب الممتلئ بالقسوة، يجعل الشخص غير مكترثًا بإيذاء مشاعر الآخرين، حتى في مزاحه وضحكه، كما قال الكتاب «يُوجَدُ مَنْ يَهْذُرُ مِثْلَ طَعْنِ السَّيْفِ» (أمثال12: 18).
4. وأحيانا نتعجل الحكم على الآخرين، بحماس شديد، دون التروّي؛ فنُصدِر أحكامنا التي تؤذي مشاعرَ الآخرين، وغالبًا ما تكون خاطئة. وهذا ما فعله أصحاب أيوب عندما جاءوا ليعزّوه وقت تجاربه الكثيرة، فجرحوه بقولهم له «اُذْكُرْ: مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ، وَأَيْنَ أُبِيدَ الْمُسْتَقِيمُونَ؟» (أيوب4: 7) أي أن الله أعطاك ما تستحق!!
المسيح المثال الأعظم في تقدير مشاعر الآخرين
ما أروع ذوقيات ربنا يسوع المسيح، ولاسيما في مراعاته لمشاعر من حوله. يمكننا أن نلحظ ذلك من مواقف عديدة:
1. في إحدى المرات اتهمه اليهود قائلين «إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟»، لكنه في رِقّة عالية أجاب وقال «أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ» (يوحنا8: 48) ، ولم يَقُل “أنا لست سامريًا” حتى لا يجرح مشاعر السامريين!!
2. وما أروع شخصه الكريم، وهو يشارك مريم ومرثا مشاعر حزنهما على أخيهما ويبكي معهما، حتى أننا نقرأ هذين التعبيرين عنه «وبكى يسوع» وأيضًا تعليق الواقفين عند القبر «انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ!» (يوحنا11: 35)
3. وفي لقائه مع السامرية الخاطئة، كشف لها حالتها وحاجتها للخلاص ولم يجرح مشاعرها بكلمة اتهام أو تقريع لها، رغم محاولاتها إخفاء علاقاتها المتعدِّدة بالرجال، فيقول لها «حَسَنًا قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ!! لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ... هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ» (يوحنا4: 17).
أنه بحق يدعونا قائلاً «تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ» (متى11: 29).
المؤمن التقي الحقيقي يقدِّر مشاعر الآخرين ويحترمها
1. الفضل كله لخلاص المسيح، وسكنى الروح القدس الذي يعطى للمؤمن مشاعر المسيح وأحاسيسه؛ فشاول الطرسوسي قَبْلَ خلاص المسيح له، يقول عن نفسه «أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا...!!» لكنه بقبوله المسيح أصبح متمثلاً بالمسيح «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ» (1كورنثوس11: 1).
2. كما أن كلمة الله تعلِّمنا أن نشارك الآخرين مشاعرهم بكل صدق «فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ» (رومية12: 15) ، وأيضًا «اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ، وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا فِي الْجَسَدِ» (عبرانين13: 3).
3. وها هو بولس الرسول يقول «لِذلِكَ إِنْ كَانَ طَعَامٌ يُعْثِرُ أَخِي فَلَنْ آكُلَ لَحْمًا إِلَى الأَبَدِ، لِئَلاَّ أُعْثِرَ أَخِي» (1كورنثوس8: 13) ، بمعنى لن أكل شيئًا قد يؤذي مشاعر أخي ويبعده عن المسيح (كان الحديث هنا عن ما ذبح للأوثان).
4. المؤمن لديه إحساس مرهف بمشاعر المتألم ويقدِّره، وهذا سمو ورقي نحتاج إليه جميعًا. فعندما ذهبت الشونمية، بعد موت ابنها، لتقابل رجل الله أليشع، أراد غلامه أن يمنعها ويدفعها بعيدًا، لكن أليشع صاحب الأحاسيس الروحية المرهفة ينتهر غلامه قائلاً له «دَعْهَا لأَنَّ نَفْسَهَا مُرَّةٌ فِيهَا» (2ملوك4: 27).
5. كما أنه ضروري جدًا أن نراعي مشاعر من حولنا، بل ونقدِّر ظروفهم، فمثلا ًيجب أن نتكلم بصوت منخفض، ونستمع إلى موسيقانا وترانيمنا بصوت هادئ، حتى لا نُقلق نائمًا أو نُزعج مريضًا أو مُتعَبًا، فربنا الكريم قيل عنه «لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ» (متى12: 19).
6. وكم أنه رائعٌ أيضًا، أن نراعي مشاعر المحرومين من أمور الزمان، أو الفقراء، أو من كان حظهم من التعليم قليلاً، وأيضًا أحبائنا ذوي الاحتياجات الخاصة، لئلا نجرحهم دون أن ندري. ولا ننسى قول السيد «طوبى للرحماء» (متى5: 7).
أحبائي..
دعونا نقدِّر مشاعر الآخرين ونحترمها، بل ونعمل على إراحتهم، ولا سيما المحزون أو المضغوط أو المتألم منهم، فنحرص على ألا نزيدهم ألمًا، بل - وبنعمة الرب - وبكل طاقتنا، نجتهد أن نكون بلسانًا لهم. فما أروع ما تعلمنا إياه المبادئ الإلهيه «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ» (أفسس4: 32).
بصدق إننا في حاجة أن نصلي كل يوم هذه الصلاة «ذَوْقًا صَالِحًا وَمَعْرِفَةً عَلِّمْنِي» (مزمور119: 66