رأينا في مرة سابقة أن المقصود بالجسد كعدو للمؤمن في حربه الروحية، هو الطبيعة الساقطة الموروثة من آدم، وهي النبع الفاسد لكل الشرور، إنها الخطية الساكنة فينا، والتي لا تتغيَّر أو تتحسن مطلقًا، وهي واحدة في كل الجنس البشري سواء المؤمن أو الخاطي. هذا الجسد يُسمَّى «جسد الخطية» (رومية6) ، أي نشيط في فعل الخطية، لا يمل أو يكل أو يكتفي، ويُسمَّى أيضًا «جسد هذا الموت» (رومية7) ، أي أنه ضعيف إلى أقص درجات الضعف والعجز في فعل إرادة الله، يقول عنه الكتاب «ليس خاضعًا لناموس الله، لأنه أيضًا لا يستطيع. فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله» (رومية8: 7، 8). وتعبير «في الجسد» يعني أنهم تحت سيادة وسيطرة الجسد الذي يقودهم لفعل الإرادة الذاتية وليس إرادة الله. أما المؤمن الذي تحرَّر من سيادة الخطية، واختبر العتق بواسطة ناموس (قوة عمل) روح الحياة في المسيح يسوع (رومية8: 2) ، فليس في الجسد بل في الروح، طالما روح الله ساكن فيه.
والجسد لا يظهر في فعل الخطايا والشرور والشهوات العالمية فقط، لكنه يظهر أيضًا في الأوساط الروحية والأنشطة الكنسية. فالجسد يبحث عن مكان له يحقق فيه ذاته، ولا يهمه أن يبحث عن مكان للمسيح. إنه يحب الظهور، ويبحث عن المديح من الآخرين، ويريد أن يلفت الأنظار لنفسه. هذا التوجه عكس ما ظهر في يوحنا المعمدان الذي قال: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يوحنا3: 30) ، وهذا ما يليق بكل خادم أمين يبحث عن مجد السيد وإكرامه. وبالأسف، على النقيض، ظهرت رغبات الجسد في التلاميذ الذين لم يكن فيهم فكر المسيح المتضع، بل داخلهم فكر عمن يكون الأعظم، وتطور الفكر إلى مجادلة، وأخيرًا تطور الأمر إلى مشاجرة. هذا هو الجسد الذي يريد المكان البارز ويُعجَب بنفسه، ولا يقنع بالخدمة المستترة. وفي الليلة التي أُسلم فيها، كان الرب مع التلاميذ في العلية حيث صنع الفصح الأخير قبل أن يذهب إلى الصليب، ولم يتحرك واحد منهم ليقوم بخدمة غسل الأرجل، آخذًا مركز العبد والخادم. ولهذا قام السيد عن العشاء، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنشفة التي كان مُتَّزرًا بها، وقال لتلاميذه: «أنا بينكم كالذي يخدم».
ومرثا في يومها عندما استقبلت الرب في بيتها، كانت «مرتبكة في خدمة كثيرة» (لوقا10: 40) ، أما مريم فجلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه، فقالت مرثا: «يا رب أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني!». فأجابها يسوع: «مرثا مرثا: أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها». لقد كشف الرب دوافع مرثا ودوافع مريم، وكيف أن مرثا كانت تخدم بدوافع جسدية وتريد المديح ولفت الأنظار، ولم يكن الدافع هو المحبة للرب والرغبة المخلصة في إكرامه. أما مريم فاختارت مكانها عند قدمي السيد لتسمع كلامه، فقد كانت تقدِّره وتقدِّر كلامه، ولم تبحث عن نفسها. وهذا هو الفارق بين المؤمن الجسدي والروحي، وعلينا أن نمتحن دوافعنا، وندع الرب يفحصنا ويختبرنا، فما أكثر الدوافع المختلطة.
عزيزي.. هل تشعر بمرارة لأن غيرك يملك ما لا تملكه؟ هل حدث أن خدمت وتعبت، وكنت تتوقع رد فعل إيجابي من الآخرين من المدح والإطراء والتشجيع، ولما لم يحدث أصابك الإحباط، وأخذت خطوات للخلف؟ هل لك شريك يخدم معك وشعرت أن الآخرين يحبونه ويقبلونه أكثر منك فتولدت في داخلك مشاعر كراهية له وقررت الانسحاب من الخدمة؟ هل كنت مستعدًا أن تقوم بخدمة ترغبها، وفوجئت بآخر سبقك وقام بها، وكان مُوَفَّقًا ومؤيَّدًا والجميع شعروا بالفائدة وكانوا مسرورين إلا أنت، فقد شعرت بخيبة أمل لأن آخر قام بالخدم؟ وهل كان شعورك نحو نتيجة الخدمة مختلفًا عن شعور الآخرين طالما أنك أنت لم تقُم بالعمل؟ أتعرف ما الذي أغضبك؟ إنه الجسد الذي يبحث عن نفسه ولا يحتمل أن يرى آخرين أفضل منه، ولا يفرح بما يعمله الله بواسطة آخرين. هل قدَّمت اقتراحًا ورُفض ولم يُأخَذ برأيك بل برأي آخر، وهل شعرت بمرارة نحو هذا الآخر؟ إن الخدمة الحقيقية ليست منافسة على القيادة ومكان الصدارة، بل ماذا يريدنا الرب أن نفعل، وأين يريدنا أن نكون؟
إن مشكلة بطرس الحقيقية كانت هي شعوره بأنه الأول والأفضل من سائر التلاميذ. وكان يثق في نفسه أكثر من اللازم، لذلك قال للرب: «إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا»، «أنا لا أنكرك»، «إني أضع نفسي عنك». كان الجسد يدفعه ويحركه وكان دائمًا في مكان الصدارة. لكنه أخيرًا تعلم أن الجسد لا يفيد شيئًا، والثقة في الذات لا تحفظه في ساعة التجربة.
ما الذي جعل يونان يغتم ويغتاظ ويطلب الموت لنفسه (يونان4) ؟ لقد أرسله الرب إلى نينوى لينادي لها بالتوبة وإلا فإن الرب سيقلب المدينة ويدمِّرها. وهو ذهب مُجبَرًا، ضد قناعته لأنه لا يحب الأمم، ونادى لمدة يوم واحد في المدينة، فاستجاب الناس استجابة مُذهلة، وتابوا بمناداة يونان، الملك وكل الشعب حتى الأطفال، فرجع الرب عن غضبه وعفا عن المدينة. فما الذي أغضب يونان؟ إنه الجسد، لأن كلامه لم يتحقق!
الجسد يستثقل الوجود في محضر الرب والصلاة، وقد يغلبه النعاس، وهذا ما حدث مع بطرس ويعقوب ويوحنا عندما كانوا مع الرب على جبل التجلي. كذلك التلاميذ وهم مع الرب في بستان جثسيماني في الليلة الأخيرة قبل الصليب، وكان الرب قد قال لهم: «امكثوا هنا واسهروا معي... اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة». وذهب ليصلي ثم عاد فوجدهم نيامًا، فعاتبهم قائلاً: «أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف». وعلى قدر ما يستقل الصلاة، على قدر ما ينشط في الخدمة التي يجد فيها إشباعًا لذاته، وفي الأجواء الترفيهية حيث يجد إمتاعًا لرغباته.
هذه بعض خصائص الجسد في ثوبه الروحي التي يجب أن نتنبه لها ونتحذر منها إن أردنا أن نخدم الرب الخدمة المرضية بخشوع وتقوى، فكم من أنشطة كنسية ستُمتحن بالنار أمام كرسي المسيح وسيظهر أنها خشب وعشب وقش.
وللحديث بقية إذا شاء الرب.