رأينا في المرة السابقة بعض خصائص الجسد التي تظهر في القالب الروحي، وها نحن نواصل حديثنا عن هذا العدو الخبيث الكامن في أعماقنا، والذي إن لم نتنبَّه لأساليبه ورغباته وخصائصه، فإننا نصبح في خطر حقيقي يُهدِّد حياتنا الروحية بالكامل. والكتاب يقول: «إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون» (رومية8).
1. الجسد يحبّ الخصام ولا يريد أن يعيش في سلام. مع أن «ثمر البر يُزرع في السلام» (يعقوب3: 18)، وثمر الروح يتضمَّن المحبة والفرح والسلام، والكتاب يوصينا أن نتبع السلام مع الجميع، وأننا حسب طاقتنا نُسالِم جميع الناس؛ لكن الجسد لا يعنيه الثمر ولا يعبأ بحفظ وصايا الله. إنه يبحث عن نفسه ومصالحه، وفي سبيل ذلك فهو على استعداد أن يُثير المشاكل ويحتَّد، ويلجأ إلى النزاع والخصام. وهذا ما أشار إليه يعقوب في رسالته بالقول: «من أين الحروب والخصومات بينكم؟ أليست من هنا: من لذاتكم المحاربة في أعضائكم؟» (يعقوب4: 1). هذا هو الجسد الذي أشار إليه بولس بقوله: «أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي» (رومية7: 23). الجسد ليس في سلام مع نفسه وليس في سلام مع الآخرين، وهذا ما نراه في لوط ورعاته. فالكتاب يخبرنا أنه بعد أن ردَّ الرب نفس أبرام، فصعد من مصر هو وامرأته وكل ما كان له، واستعاد اتزانه الروحي وشهادته للرب (تكوين13)، حدثت مخاصمة بين رعاة مواشي أبرام ورعاة مواشي لوط، ولم تحتملهما الأرض أن يسكنا معًا إذ كانت أملاكهما كثيرة. وبات واضحًا الطمع الذي في قلب لوط، وكان هذا سبب المخاصمة. أما أبرام، الشخص الروحي، فكان حريصًا على السلام وعلى نجاح الشهادة، وأظهر كل نُبل واستعداد للتضحية وتحمُّل الخسارة. وذات الشيء ظهر في كنيسة كورنثوس، حيث كان بينهم حسد وخصام وتحزُّب وانشقاق، وكلها من أعمال الجسد. والرسول وبَّخهم بقوله: «لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين، كأطفال...» (1كورنثوس3: 1).
2. الكبرياء والتمركز حول الذات. إن الجسد لا يحتمل أن يرى آخر أفضل منه، وهذا ما ظهر في شاول الملك، عندما قتل داود جليات، وخرجت النساء بالدفوف يغنين له قائلات: قتل شاول ألوفه وداود ربواته. فاغتاظ شاول وحمي غضبه وأراد أن يقتل داود (1صموئيل18). فالجسد لا يفرح بما يعمله الله بواسطة آخرين، ويريد أن يكون هو الكل في الكل. هذه الروح نراها أيضًا في رجال أفرايم الذين خاصموا جدعون بشدة قائلين: «لماذا لم تدعُنا للذهاب معك لمحاربة المديانيين» (قضاة8)؟ فلم يفرحوا بالنصرة التي حقَّقها لصالح شعب الرب، طالما لم تتم بواسطتهم. لكن جدعون تصرَّف بمنتهى الحكمة والوداعة، وأشعرهم أنهم أفضل منه وما عملوه كان أعظم مما عمل هو ورجاله، وعندئذ ارتخت روحهم عنه. فلنحذر من الجسد، وندينه في أنفسنا إذا ظهر، خاصة في الخدمة وعمل الرب.
3. الجسد لا يعترف بأخطائه بل يسعى لتبرير نفسه وإدانة الآخرين. وهذا ما ظهر أيضًا في شاول الملك، حيث ألقى التهمة على الشعب في أمر عماليق عندما عفا عن أجاج ملك عماليق وعن خيار الغنم والبقر، مخالفًا لتعليمات الرب الواضحة (1صموئيل15). كذلك في محاولاته المتكررة لقتل داود بلا سبب، فعندما دفع الرب شاول ليد داود ولم يقتله وأثبت حسن نواياه نحوه، فإن شاول قال لداود: «أنت أبر مني» (1صموئيل24: 17)! بدلاً من الاعتراف بالخطإ وإدانة نفسه، وكأنّه يؤكِّد أنه بار حتى لو كان داود أبَرّ منه.
4. الجسد عدواني وشرس خاصة نحو من يعمل مع الله. كان شاول على استعداد أن يقتل صموئيل إذا سمع أنه ذهب ليمسح داود ملكًا (1صموئيل16)، وحاول أن يقتل يوناثان ابنه (1صموئيل14)، ومرارًا حاول أن يقتل داود، وقتل فعلاً جميع الكهنة (1صموئيل22).
5. الجسد لا يعرف الاتكال على الرب ولا السير بالإيمان، إنه يثق فقط فيما يراه وفي القدرات والإمكانيات الطبيعية والمادية؛ ولهذا فإن الجسد لا يحب الصلاة. وهذا ما نراه في يعقوب. فقد عاش معظم حياته مستقلاً عن الله، يفكِّر في الحلول البشرية لكل مشكلة تواجهه دون أن يشعر بالحاجة إلى الله. خدع عيسو وأخذ منه البكورية بأكلة عدس. خدع أباه وأخذ البركة بأن انتحل شخصية عيسو. في خلاء مستوحش خرب لم يرفع قلبه ويصلِ طالبًا الحفظ والمعونة. في قرار الزواج لم يستشر الرب بل عينيه، فقد أعجبته راحيل لأنها كانت حسنة الصورة وحسنة النظر. لكي يُكوِّن ثروة لم يطلب من الرب النجاح بل لجأ إلى الوسائل البشرية، وكان يوحِّم الغنم عند مساقي المياه بحيث تكون الغنم القوية له والضعيفة للابان. وهو يواجه عيسو، قبل أن يصلي، قسم القوم إلى فريقين، وجهّز هدية كبيرة ليستعطف بها وجه عيسو. وهكذا كان منهج حياته أن يتكل على مهاراته وخبراته وقوته الجسدية أكثر كثيرًا من اتكاله على الرب. كان يستأمن نفسه أكثر مما يستأمن الله، وهذا منهج الجسد في التفكير واتخاذ القرارات، فلنحذر.
6. الجسد لا يعرف الخضوع، لكنه متمرد وعنده إرادة ذاتية عنيدة. وهذا التمرد ضد الله وضد السلاطين المرتبة من الله.
7. الجسد سريعًا ما يمل ويحب التغيير. فهو سريع الملل من الاجتماعات، خاصة إذا طالت، ومن فرص الصلاة والخلوة مع الرب، ومن قراءة الكلمة أو أيَّة مادة روحية، بينما لا يرفض الترانيم الانتعاشية التي لا تخلو من طرب، وينشط في أي مجال للترفيه. وبوجه عام يبحث عن كل ما يشبع ويمتع رغباته الجسدية وليس ما يشبع احتياجاته الروحية. كما أنه يبحث عن الانبهار والشهرة والأسماء الرنانة (النجوم) حتى في المجال الروحي، ويسير وراء الناس وليس وراء الرب. كما أنه يرغب في أن يخوض تجارب جديدة ولو من قبيل التغيير. وهو دائمًا لا يشبع أو يكتفي، ذلك لأن كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا.
وللحديث بقية إذا شاء الرب