لثلاث سنوات متتالية وعيناي تريان منظرًا يدعو للتأمل، ورغم صغر سني، لكنه شدّني كثيرًا، وظل سؤال يتردد داخلي: “تُرى هل تتألم هذه المسكينة من كثرة الضغوط التي تقع عليها؟ هل تُدرك في يومٍ من الأيام بأنها ستُصبح ذات قيمة؟” ولم أتوقَّف عند هذا التساؤل، بل دار بذهني تساؤل آخر “هل هذا الشخص يحبّها؟ وإن كان يُحبها فلماذا كل هذه القسوة والضغوط بيديه؟” يومًا رأيته بحنو يضغط عليها برفقٍ ويعاملها بمنتهى الرقة. في هذه الأثناء دار حديث بينهما أصغيت له بكل حواسي، لحديث “طينة” مع “فخاري” عظيم يحبها.
الطينة: “سيدي، لما قطعتني، وعن بقية الطين عزلتني. هل تسعد بوحدتي؟”
الفخاري: “انتظري عزيزتي، فقد قررت أن أصنع منك ما لا تتوقعين”
ردت “ولما لا تكون قيمتي هنا وسط بقية الطين، وأنا نائمة مستكينة؟”
أشار بإصبعه مهدئًا لها، ثم قال لها بعد قليل: “انتظري وأصبري، وسترين”
شعرت الطينة بيدي الفخاري تثقل عليها، وتعصرها، وتضغط عليها بقوة أكبر، بعدها بدأ يضرب عليها ضربات متتالية وهو في قمة التركيز بما يفعله، ثم يتوقف لحظات ويمد أصابعه بحِرَفية شديدة ليلتقط بعض الشوائب والحصى العالق بها. واستمر وقتًا طويلاً ينظف وينقي في قطعة الطين، وعيناه تلاحظانها، منهمكًا بكل حواسه مع ما يعمل. في هذه الأثناء قالت الطينة: “لماذا ثقلت يديك علىَّ، قطعتني ومزقتني وضغطتني. ألم تكتفِ بحرماني وعزلي! «يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَارًا وَلَيْلاً» (مزمور32: 4)”.
اكتفى الفخاري هذه المرة بابتسامة رقيقة، دون تعليق. استطردت الطينة قائلة: “لقد نقيتني، وجعلتني ذات ملمس ناعم، لقد صرت الآن أفضل بكثير. يكفي هذا جدًا يا سيدي”
توقف الفخاري عن العمل وقائلاً: “يا صغيرتي، إن يداي لم تثقل عليك، بل كانت إحداهما فوقك تضغط وتفحص وتُنقي، بينما الأخرى من تحتك تحملك، وتسندك، وترفعك. «وَالأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ» (تثنية33: 27). لا تخافي حتما ستكونين أفضل بكثير، كما أحب أنا أن أراكِ”
قالت: “ظننت أنك أنجزت كامل عملك بي، لكنني أشعر بصدق كلامك، ويدك الماهرة وابتسامتك الواثقة تُشعرني بالإطمئنان رغم الألم الذي أشعر به من وقت لآخر”
ازدادت ابتسامة الفخاري وأردف: “صغيرتي، ستكونين يومًا تحفتي الغالية التي تظهر فيها بصماتي وإبداعي”
قال هذا وأمسك بها بكلتا يديه، واتجه لدولابه (أداة يضع عليه الطين ويدوره بسرعة ليشكله) في جانب غرفته، فاحتجت الطينة: “أبعد كل هذا تضعني على الدولاب! إنه أمرٌ صعب للغاية. سرعته شديدة، وأشعر بدوارٍ رهيب. أرجوك سيدي يكفي هذا، لن أستطيع استكمال رحلتي معك، يمكنك إتمامها مع طينة أخرى. اتركني وشأني...”
قاطعها الفخاري هذه المرة بلهجة حازمة: “إني أصنع كل شيء لأجلك لماذا لا تذكرين إلا دوران الدولاب؟ اذكري يديَّ الحانيتين ولمساتي الشافية؟ أذكري المياه الباردة التي سكبتها عليكي لتخفف عنكِ. فكل الأشياء تعمل معًا للغرض الذي صنعتك لأجله”
أجابته: “نعم سيدي أشكرك لأجل كل هذا، لكن هذا لا يمنع أنني تعبت”
أسرع ليجيبها: “عزيزتي، إن درس الخضوع ليس بالأمر الهين، أعرف مدى صعوبة الأمر، لكنني متيقن أيضًا بأنك ستتعلمينه في الوقت المناسب.”
ابتسمت رغم الألم الذي تشعر به؛ لما وجدته يرفعها من على الدولاب وقالت له: “آه.. أخيرًا الآن صرت كما يحسن في عينيك!”
نظرتُ أنا - كاتب هذه السطور - وإذا بالفخاري يأخذ قطعة الطين هذه، بعد أن صارت وعاءً جميلاً، لكنني شعرت أنه مازال هشًا ضعيفًا، ليس بمقدوره أن يصمد أمام القليل من الماء. وتسألت: “هل حقًا انتهى الفخاري من عمله؟” إلا أنني وجدته يأخذ الوعاء ويضعه في الشمس تاركًا إياه وحيدًا، يرقبه بعينيه من وقت لآخر. واستمر الأمر هكذا لعدة أيام.
وفي خلال هذا الوقت سمعت الطينة تقول للفخاري: “لماذا تركتني هكذا وحيدة في الشمس؟ ألم ينتهِ عملك فيَّ، ألم يكن كافيًا ما مررت به من مراحل كثيرة ومتعبة؟”. «دَخَلْنَا فِي النَّارِ وَالْمَاء» (مزمور66: 12). انسابت قطرات مياه منها في حزن، فقد بدأت تبكي من شدة ما تشعر به من وحده وتعب، واستمرت هكذا حتى جفت تمامًا.
ثم وجدتها تهمس بصوتٍ ضعيف وهزيل جدًا: «لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟» (مزمور43: 5). ثم تطلعت نحو الفخاري وقالت بذات الصوت المنخفض: “ألا يكفي؟!”
ورغم صوتها الهامس، فوجئت به يتطلع نحوها مبتسمًا: “لست تفهمين الآن”. ثم أتى بقليل من الماء وبدأ يسكبه عليها كقطرات خفيفة، ثم يلمسها بيديه ليغطي كل جزء فيها بالماء البارد، فرفعت عينيها اليه قائلةً: “سيدي معاملاتك لا أفهما؛ فتارة تعاملني برفقٍ وحبٍ غامر ينسيني تعبي، وتارة أراك تقسو علىَّ فأقول «إن سيدي قد نسيني»!” ابتسم هامسًا: “ستفهمين فيما بعد” (يوحنا13: 7).
تطلعت الطينة إلى نفسها، بعد أن اكتمل شكلها من الخارج ثم قالت له: “لقد انتهى العذاب لم يتبقَ شيئًا إلا بعض الجماليات” ورفعت عينيها إلى الفخاري الذي انحني ليحملها على يديه واحتضنها «الْمُحَمَّلِينَ عَلَيَّ مِنَ الْبَطْنِ، الْمَحْمُولِينَ مِنَ الرَّحِمِ» (إشعياء46: 3). فشعرت بدفءٍ يفوق الوصف، وتهللت أساريرها وهي تقول: “لقد انتهى العمل وصرت وعاءً كما يحسن في عيني الفخاري” إلا أنها وجدته ينظر لعينيها مباشرة وهو يقول لها: “لم ينتهِ العمل بعد”. ورأيتُ الفخاري يحملها بين يديه ويتجه نحو فرن كبير ناره متقدة جدًا، وما أن رأت الطينة هذا المنظر حتى صرخت وتشبثت بالفخاري وهي تصرخ: “إلى أين تأخذني؟ سأموت إن وضعتني هناك، أتوسل إليك سيدي، لا تتركني في هذه النيران. لا تتركني”
استمر الفخاري في طريقه وما إن وصل إلى الفرن حتى وضعها بهدوء رغم صراخها، وعيناها المتحجرة من شدة الخوف. ثم بدأ يضبط درجة حراة الفرن، والتوقيت الذي يعرفه هو جيدًا. بينما يراقب الطينة التي صارت وعاءً بكل دقة؛ ظلت تصرخ الطينة صرخات مُرة متتالية: “لماذا كل هذا؟َ آآآآه تعبت تعبت تعبت”. ثم انهارت في بكاء شديد.
ولما خارت قواها هدأت قليلاً، أو ربما فقدت وعيها من شدة البكاء والنحيب. وبعد ما انقضى الوقت، هدأت النار تدريجيًا، إلى أن خمدت تمامًا. انتظر الفخاري قليلاً، ثم مد يديه وأخذ الوعاء بعد أن صار أشد صلابة، وأكثر متانة. ثم وضعه على عربة صغيرة لينقله إلى مكان مخصص جميل، فيه بحيرة صغيرة، نزل فيها الفخاري بنفسه آخذًا معه الوعاء. فوجدت علامات الفرح والانتعاش واضحة في عيني الطينة، أخذت تتطلع لصورتها منعكسة على صفحة المياه، متهللة: “صرت وعاءً جميلاً”، بينما الفخاري يحملها بكلتا يديه ويغسلها. وهي تقول له: “يكفي أنني بين يديك في النهاية، يكفيني أنك معي. أنت كفايتي، أنت من صنعتني هكذا. لقد فهمت الآن قصدك العظيم من كل ما سبق. شكرًا لك سيدي”
فتحدث إليها الفخاري مبتسمًا: “يا تحفتي الجميلة، لم أتركك لحظة، ولم أغفل عنك أبدًا. كنتِ أمام عينىَّ وبين يديَّ طوال الوقت، كنت أعلم النهاية منذ البداية” في أثناء كلامه معها كان يكمل تنعيمها، ثم ابتسم قائلاً: “الآن فقط صرتي جاهزة لوضع لمساتي الجمالية عليك”.
أتى بأجود أنواع الألوان والفُرش الناعمة، وبدأ بمهارة شديدة يرسم عليها رسومات غاية في الإبداع، وبعد أن انتهى من لمساته الأخيرة وضعها في مكان مميز وخاص جدًا، ثم وضع أمامها لوحة كان قد كتب عليها: “من صُنع يدىَّ” «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ» (أفسس2: 10). وظل يتطلع إليها كل صباح ومساء، داعيًا الجميع ليشاهدوا ويستمتعوا بجمال تحفته الفنية. فكان كل من يأتي وينظر إليها يخرج مندهشًا متعجبًا من عظمة صانعها، ومبدعها. كل هذا بينما الطينة التي صارت وعاءً تحكي لأصحابها الذين يشاركونها ذات المكان: “لقد كنت مجرد طينة، مدوسة من الجميع، محتقرة، لا قيمة لي، انظروا كيف جعلني تحفته” ثم تشير إليه قائلة: “هذا سيدي يداه صنعتاني وأنشأتاني” بعد أن كنت.. مجرد طينة.