المطوبة مريم وكلمات سمعان البار وحنة النبية
سمعت مريم كلامًا كثيرًا ورائعًا عن الصبي يسوع من سمعان البار وحنة النبية، عندما صعدوا بالصبي يسوع إلى أورشليم وله من العمر أربعين يومًا ليقدِّموه للرب (اقرأ القصة في لوقا2: 22-39). أخذه سمعان البار على ذراعيه، وبارك الله وتكلَّم إليه وعنه. وأيضًا حنة النبية في تلك الساعة وقفت تسبِّح الرب وتكلَّمت عنه.
وفي هذا المشهد نجد سمعان وحنة متشابهين في الكثير: فكل منهما كان متقدِّمًا في العمر. وكل منهما اتّصف بالتقوى والشركة مع الله، فسمعان كان رجلاً بارًا تقيًا والروح القدس كان عليه، وحنة كانت لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلًا ونهارًا. وكل منهما تكلم عن الصبي يسوع. وكل منهما كان نبيًا، فسمعان تكلَّم بنبوة، وحنة قِيل عنها إنها نبية. لكن بحكمة، سجَّل الروح القدس كلمات سمعان البار ولم يسجِّل كلمات حنة النبية.
ونتأمل الان في كلمات سمعان البار:«الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ»
كان قد أُوحي إلي سمعان بالروح القدس أنه لن يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب، وعندما رآه طلب منه الإنطلاق. لا يمكن للإنسان الخاطئ أن ينطلق بسلام؛ لأن الموت مخيف ومرعب بالنسبة له، وهو ملك الأهوال (أيوب18: 14)، لكن بالنسبة للمؤمن هو ربح (فيلبي1: 21). طلب سمعان من الرب أن يُطلق روحه بسلام، معلنُا بذلك أنه لا يحتاج إلى شيء آخر ما دام قد رأى المسيح، وهذا لسان حال كل مؤمن حقيقي به
«لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ»
عندما رأى سمعان البار الطفل يسوع رأى فيه خلاص الله؛ وكل من يرى خلاص الله لا بد أن يرى الرب يسوع المسيح. فالمسيح هو المخلِّص الوحيد الذي أرسله الآب إلى العالم، وقدم نفسه فدية لأجلنا على الصليب. إنه المخلِّص من دينونة الخطية وسيادتها، وهو الذي يُخلصنا من تجارب البرية، وننتظر خلاصه النهائي بمجيئه من السماء لأخذ المؤمنين إلى بيت الآب.
«نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ»
المسيح هو النور. قبل أن يأتي المسيح إلى العالم كان الناس يعيشون في الظلام ببعدهم عن الله وأعمالهم الشريرة. لكن بمجيئه إلى الأرض تم ما قاله «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ» (يوحنا8: 12). وأدرك سمعان، بالروح القدس، أن المسيح سيأتي متضعا وبالتالي سيُرفض من شعبه، وسوف يتجه النور إلى الأمم. وبعد قيامة المسيح، أوصى تلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.
«وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ»
تركت كلمات سمعان أثرًا عميقًا في قلب يوسف وأمه وجعلتهما يتعجبان مما قيل فيه، وحتى هذه اللحظة لم يكونا يفهمان تمامًا معنى هذه الكلمات.
وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ»
جاء الرب يسوع المسيح إلى شعبه وكان بالنسبة لهم هو الحجر والصخرة الذي وُضع لتحديد مسار الكثيرين بينهم، فمن يرفضه ويحتقره يسقط ويهلك، لكن من يقبله ويؤمن به يقوم رافعًا رأسه وتكون له الكرامة. كان اليهود ينتظرون المسيح آتيًا إليهم بالمجد والقوة، ولم يخطر ببالهم أن يأتيهم في صورة الإتضاع. كانوا يتوقعون فيه جبروتًا كداود، وجلالاً وغنًى كسليمان، ولكنهم وجدوه إنسانًا فقيرًا، ليس له أين يُسند رأسه؛ لذلك عثروا فيه، وسقطوا لعدم إيمانهم. لكن من الناحية الأخرى كثيرون آمنوا به فرفعهم وصار لقيامهم، وكأنّهم في الجب أو البحر، واحتاجوا إليه كالصخرة لكي يقفوا عليه فلا يهلكوا، واستطاعوا أن يقولوا: «وَأَصْعَدَنِي مِنْ جُبِّ الْهَلاَكِ، مِنْ طِينِ الْحَمْأَةِ، وَأَقَامَ عَلَى صَخْرَةٍ رِجْلَيَّ. ثَبَّتَ خُطُوَاتِي» (مزمور40: 2).
«وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ»
السيف هنا يشير إلى الآلام والأحزان التي كانت سوف تجتازها المطوبة مريم كأم، عندما ترى ابنها يسوع معلَّقًا على الصليب في موضع العار والهزء، بعد أن جلدوه ومزَّقوا ظهره بالسياط، والشوك على رأسه، والمسامير في يديه ورجليه، والدماء تنزف منهما.
«لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ»
بمجيء المسيح إلى الأرض كُشفت قلوب الكثيرين وأُعلنت أفكارهم، فالبعض رفض المسيح مثل الفريسيين والكتبة، والبعض الآخر قبله كالمخلِّص والرب مثل التلاميذ. الفريسيون والكتبة تظاهروا بحفظ الناموس وغيرتهم على الشريعة، لكن ظهر رياءهم وشرهم، بينما التلاميذ الفقراء والبسطاء أظهروا محبتهم للرب يسوع وتبعيتهم له. عندما مات المسيح حزن الذين أحبوه، وفرح الذين أبغضوه، وهنا أُعلنت الأفكار من قلوب كثيرة.
وعندما رأت حنة النبية الصبي يسوع وقفت احترامًا له، بالرغم من شيخوختها، إذ كانت قد تجاوزت مئة عام. وقفت لتسبِّح الرب، وتكلَّمت عنه مع جميع المنتظرين فداءً في أورشليم.
كانت المطوَّبة مريم تحفظ الكلام الذي سمعته متفكِّرة به في قلبها. كانت تعلم أن هناك أشياء تفوق إدراكها، فحفظت في قلبها كل الكلمات وهي تفكِّر فيها. كانت تجيد الصمت والتأمل القلبي العميق الذي يزيد من تعلقها وإيمانها بالرب. ليتنا نتعلم منها أن نحفظ أقوال الله في قلوبنا ونفكِّر فيها كما هو مكتوب: «لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى» وأيضًا «وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً» (كولوسي3: 16، مزمور1: 2).