قد تسمعها من إنسان متألِّم، تطول تجربته وتكثر حيرته، يمشي في طريق مظلم يظنّه بلا نور، وفي منحدر سحيق يحسبه بلا نهاية؛ فجأة تُحَلّ مشكلته وتنفرج أساريره، فيصرخ فرحًا: أخيرًا.. فُرِجَت.
أو قد تسمعها من إنسان مديون، يحتار في تسديد مديونيته بالقروض والُسلف والجمعيات، يهرب بالنوم من التفكير، ويعلم أن الرب له التدبير، تبطل المديونية فيقول بأريحية: فُرِجَت.
كلمة رائعة تعبِّر عن الفرج بعد الضيقات، وعن السعادة بعد المحزنات، ولأن وقعها زكي على النفس، ورطِب على الروح؛ فعلينا أن نستنشق البعض منه فكريًا، وأن نستفيد منه روحيًا.
“فُرِجَت” وتحكُّم القدير
لا شك أن أيامنا على الأرض لا تدور على وتيرة واحدة؛ فتارة نَمُرّ ببعض المشاكل والضيقات، وتارة أخرى نسعد بالأفراح والمُبهجات. فمن يعاني من الإفلاس والضيقة المالية، يقينًا سيأتي يوم “يفرجها” الله عليه بوظيفة تستره وتسدِّد احتياجاته. ومن يمُرّ بضيقة عاطفية، يقينًا سيأتي يوم و“يفرجها” عليه الله بشريك يضمِّد جروحه الماضية ويدفعه لأحلامه المستقبلية. ومن يجتاز في ضيقة نفسية، يقينًا سيأتي يوم و“يفرجها” الله عليه، بمدخل للسعادة يطرد الكآبة ويطارد اليأس. فكما أنه لا حياة بلا ضيق، فكذلك لا ضيق بلا فرج!!
والحقيقة أن الضامن الوحيد، بأن كل ضيقة يعقبها “فرج” ولو بعد حين، يكمن في أن الله؛ خالقنا المحب، لا يقف موقف المتفرج وقت آلامنا وكروبنا، ولا حتى موقف الذي يرثي لنا ويرِقّ لحالنا، لكن ما يطمئنا على يقينية “الفرج” بعد أي ضيق، هو أن الله أثناء الضيق والألم، يتحكم في عاملين غاية في الأهمية؛ وهما درجة الضيق، وزمن الضيق.
وهذا أمر معزٍّ جدًا لنا، لأنه مهما كان سبب الضيق (إن كان إبليس أو الظروف أو الشخص نفسه أو الخطية أو أي سبب آخر)، فإنّ الله المحب، يحتفظ لنفسه بحق تحديد مدة هذا الضيق؛ بحيث لا يقل أو يزيد لحظة واحدة عن ما قرَّره، ويتحكم أيضًا في شدّة هذا الضيق، بحيث لا تزيد درجة الألم على الإنسان فينهار، أو تقل عليه فيتشوه. تمامًا مثل “الطباخ” الماهر - مع فارق التشبيه - الذي يعرف درجة الحرارة التي تناسب أكلته الشهية، وكذلك الزمن الذي يجب أن تمكثه في الفرن، فيحرص ألا تزيد درجة حرارة النار عليها فتُحرق، أو تقل درجة حرارة النار فتخرج “نصف سوا”. وطالما أن هذين العاملين تحت سيطرة الله القدير، فلا خوف على المؤمن من أي تفكُّك أو انهيار، أو حتى تشوه أو دمار.
“فُرِجَت” ودرجة الضيق
ولشرح الفكرة السابقة، سنطالع عدة أمثلة من الكتاب المقدس؛ ولنبدأ بيونان؛ ذلك النبي الذي اجتاز في ضيقة لم يجتَزها إنسان من قَبْل؛ فهو هارب من وجه الرب إله السماء، وها هو قابع في بطن حوت ضخم، لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليالِ، ومن داخله صلى يونان وَقَالَ: «دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ، فَاسْتَجَابَنِي. صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ، فَسَمِعْتَ صَوْتِي» (يونان2: 2)، وهنا يظهر العامل الأول في تحكم الله في درجة الضيق، فمن الذي ضبط أنزيمات الحوت الهاضمة لكيلا تهضم يونان؟! ومن الذي أوجد ليونان الأكسجين الكافي لكي يتنفسه ويُخرج صلاته؟! ومن الذي منع الحوت من بلع أسماك كبيرة يمكنها أن تؤذي يونان وهو مستقر في جوفه؟! وأسئلة أخرى كثيرة لا إجابة لها، إلا أن الله القدير الحكيم، كما أنه سمح بالضيق وأعدّ الحوت، فهو أيضًا تحكم في درجة هذا الضيق، ومنع عن نبيّه المحبوب قدوم الموت!!
وهو ذات الأمر الذي تكرر حين تحكم الله في درجة حرارة النار المتّقدة سبع أضعاف، فجعلها لا تؤذي رجاله الأوفياء الثلاثة، ولا تأتي برائحتها عليهم، فـ«لَمْ تَكُنْ لِلنَّارِ قُوَّةٌ عَلَى أَجْسَامِهِمْ، وَشَعْرَةٌ مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمْ تَحْتَرِقْ، وَسَرَاوِيلُهُمْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَرَائِحَةُ النَّارِ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِمْ» (دانيآل3: 17). وغيرها الكثير من الأمثلة، عن أحباء لله الذي أجازهم في ضيق شديد، وأدخلهم الفرن الإلهي، ولم يكتفِ بأن يشاهدهم من وراء هذا الفرن الزجاجي، لكنه ضبط بعناية درجة حرارته، بل - وإن استدعى الأمر - فإنه يدخل يتمشى معهم في ذات الفرن وذات النار!!
“فُرِجَت” وزمن الضيق
أما العامل الثاني، والذي يتحكم فيه الله شخصيًا، فهو زمن الضيق الذي يجتاز فيه المؤمن، وهذا يظهر في الكلام الخاص لملاك كنيسة سميرنا «لاَ تَخَفِ الْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ. هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضًا مِنْكُمْ فِي السِّجْنِ لِكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيْقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (رؤيا2: 10)، ولاحظ كلمة «عشرة أيام»، فالله العلي هو المتحكم الوحيد في زمن الضيق، ويضبطه على ساعته باللحظة دون تقديم أو تأخير، فلا يمكن أن يكون الضيق تسعة أيام أو حتى أحد عشرة يومًا. صحيح أن هذا الأمر لا يعجب إبليس وبعض الناس الذين يكرهون المؤمن ويتلذذون بأن يزيدوا من زمن ضيقته، ولكن هيهات، فالأمر ليس بيدهم بالمرة، فعندما ينتهي وقت التجربة والضيق، ويتحقَّق هدف الله منها، يتوقف الزمن وتدقّ الساعات وتعلن أنها “فُرجت”.
عزيزي القارئ، كلنا نمر بضيق مختلف الدرجات والأنواع، ولكن اطمئن، فالأمر يخضع لتحكُّم الله القدير المحب، الذي يتحكم في درجة الضيق، وفي مدته أيضًا، ويقينًا عندما يحقق هدفه من وراء هذا الضيق، ستنعم بالنضج وباللمعان، ووقتها ستختفي لغة الواقع والعيان بأنها “أغلقت”، وستبرز لغة الرجاء والإيمان أنها “فُرجت”.
السنين قاسية ودوارة، والضيق بيعنوِن أيامها
والدنيا خاينة وغدَّارة، ولا حد يضمن يلجِّمها
لكن ضماني إن مَلَفي قدامك مفتوح
وزمن ضيقتي متحدِّد على ساعتك ومشروح
ولا درجة حرارة تقل أو تزيد عن المسموح
علمني أسلم لك نفسي، لأجل ما تهديها وتعينها
وتفرج ضيقتي على إيدك، ما أنت اللي جابلها