كانت رحلة ممتعة مليئة بخبرات جديدة، محفوفة بروح الشباب والمغامرة، حين قرَّرنا الصعود لقمة جبل سانت كاترين بسيناء المصرية، لنتمتع برؤية مشهد الشروق البديع من قمة الجبل. بدأنا الرحلة في تمام الواحدة ليلاً، واستغرق الوصول إلى قمة الجبل ما يقرب من 3 ساعات. وانتظرنا حتى جاءت اللحظة المرتقبة للشروق، وكم كانت مثيرة وبديعة حين احتضنت الجبال الشامخة أشعة الشمس الدافئة، معلنة عن انقشاع الظلام وولادة النور. وفي دقائق معدودة انتشر النور في كل الأرجاء، ليضيء الأرض والسماء، وعندها أدركنا معنى القول: «ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت» (مزمور104: 24)!!
ومع اشتداد حرارة الشمس، قرَّرت أنا وثلاثة من الرفقاء العودة إلى النقطة التي بدأنا منها. لكن للأسف ضللنا الطريق في وسط سلاسل الجبال المتشعبة. ولم نعرف من أين أتينا أو إلى أين نذهب. وشعرنا أن نهايتنا قد اقتربت، إذ ظل تيهاننا وسط تلك الجبال مدة لا تقل عن 7 ساعات، بدون طعام أو شراب، وانقطعت كل وسائل الاتصال مع باقي المجموعة. حاولنا أن نستعيد قوانا للعودة حتى ولو إلى قمة الجبل، لكن كل محاولاتنا باءت بالفشل. حتى جاءت لحظة النجدة التي جادت بها السماء؛ لقد صادفنا “هايدي”، وهي باحثة أمريكية كانت قد اكتشفت طريقًا مختصرًا لصعود وهبوط جبل سانت كاترين، وقد جاءت لتختبره على أرض الواقع قبل تقديمه للمسؤولين المصريين. كانت هايدى هبة من الله لنا في الزمان والمكان المناسبين؛ فأطلعتنا على الخريطة التي سوف نسير بموجبها، وقالت لنا بنبرة مليئة بالثقة كلمة واحدة فقط هي: “اتبعوني”. ونظرًا لجهلنا وتيهاننا، سرنا وراءها دون أي اعتراض، بالرغم من صعوبة الطريق ووعورته، لعدم السير فيه من قبل، وبالفعل وصلنا بسلام إلى نقطة التجمع، بعد أن قاربت الشمس على المغيب بعد رحلة مليئة بالتعب والكد الشديد.
صديقي وصديقتي: إن الشعور بالتيهان هو إحساس مؤلم ومزعج. والأخطر أن تكون سائرًا في طريق يؤدي إلى المجهول وأنت لا تدري. لذا يحذِّرنا الكتاب قائلاً: «تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً، وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ» (أمثال14: 12). لذا ينصحنا بالقول: «مَهِّدْ سَبِيلَ رِجْلِكَ، فَتَثْبُتَ كُلُّ طُرُقِكَ» (أمتال4: 26). ويطمئننا الرب بالقول: «أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ» (مزمور32: 8).
ففي سفرنا في رحلة الحياة نحتاج لشخص بصير وحكيم، نسير خلفه ونتبعه ليضمن لنا سلامة الوصول.. ومن سوى المسيح ناصحٌ ومرشدٌ، فإن كنت جادًا في بحثك عن الطريق الذي يضمن لك الحياة الأبدية، فالمسيح هو مفتاح الحياة فهو الذي قال: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا14: 6). وكما تركنا نحن كل أفكارنا وطرقنا الخاصة، في الوصول إلى الطريق، واتّبعنا الباحثة هايدي في الوصول إلى نقطة البداية، علينا أن نترك نحن كل ما يعطلنا: «لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ، وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَإِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ» (اشعياء55: 7).
ويقدِّم لنا الكتاب أشخاصًا تركوا أشياء قد تبدو في نظرهم غالية ومحبوبة، لكن في سبيل السير مع الرب تركوها غير نادمين عليها. مثلاً:
السامرية وقد تركت جرة الماء
لقد تركت حياة الشرور والنجاسة والشهوة الردية، التي تمنعها من تبعية المسيح بقلب طاهر؛ فَجَرَّة الماء تشير إلى فراغ القلب البشري وسعيه للارتواء من مَلَذات العالم الوقتية، وهيهات أن تروي القلب البشري.
بارتيماوس وقد ترك الرداء
إنه ترك كل ما يتعلق بالماضي من فقر وذُلٍّ وعمى، ليتحرر من إبليس، وينير الرب له الطريق لأن «إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس4:4).
بطرس وقد ترك الشباك
قال بطرس للمسيح: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» (متى19: 27)، لكن الرب كافئه بما هو أعظم وهو ربح النفوس وأعطاه امتياز مفاتيح ملكوت السماوات.
متّى وقد ترك المنصب والثراء
كان يعمل في جمع المال لحساب الحكومة الرومانية، أقوي الحكومات في ذلك الوقت، لكنه ترك المنصب وبريقه عندما قال له السيد: «اتبعني».
إبراهيم وقد ترك الوطن والأحباء
استند أبونا إبراهيم في إيمانه على حكمة الله وأمانته، عندما قال له «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك» (تكوين12: 1). وقليلون هم الذين يحظون بهذا الأمر الجليل إذ يتركون أوطانهم وأقاربهم ويرسلهم السيد خارج حدود بلادهم حاملين بشرى رسالة الخلاص السعيد.
أخيرًا نقول: إن ترك أي شيء من الأشياء السابق ذكرها، يهون أمام محبة الرب يسوع «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ» (فيلبي2: 7، 8)، بل ذهب بخطى ثابتة إلى الصليب ليتمِّم مشروع الفداء العظيم، وكان وحيدًا متروكًا من الجميع وصرخ صرخته الشهيرة «إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متى27: 46). لقد تُرِكَ المسيح حتى لا يُترك الإنسان ويقف وحيدًا أمام عدالة الله.
عزيزي وعزيزتي
يا من تشعر بالوحدة والملل والضيق.. وقد غاب عنك الحبيب والصديق... وتقف وحيدًا تائهًا بلا رفيق.. فها الرب يسوع الحبيب الرقيق.. يدعوك لتسير برفقته فهو وحده “الطريق” عندئذ تنعم بالأمان، وتحظى بالسلام العميق. فهلم إليه!